اعتبروا يا أولي الألباب
لم يكن مشهدًا عاديًا، مشهدُ محمد حسني مبارك في قفص الاتهام، ذلك الرجلُ الذي رئس جمهورية مصر العربية على مدى ثلاثة عقود، لم تكن كافية لتشبع شهوته في التربّع على كرسيّ الحكم، بل كان يقول: هل من مزيد؟ لقد نسي أو تناسى، إذ قد حرمته الصبغة الاصطناعية رؤية شعره الأبيض، أنه جاوز الثمانين التي قال فيها شاعر العرب زهير بن أبي سُلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعشْ** ثمانين حولا لا أبك يسأمِ
لم يشأ أن يتنحى عزيزًا مكرّمًا ليقضي ما تبقّى له من أيام العمر «رئيسًا سابقًا محترمًا»، قبل أن يخلعه شعب مصر، الذي أرهقته نزوات وتصرفات ذلك «المتصابي»، الذي حسب نفسه مالكًا لأرض مصر وشعبها، يورّثهما لمن يشاء.
حين أمر بقمع المظاهرات السلمية بالحديد والنار، فزهقت المئات من الأرواح، كان حسني مبارك قد نسي قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة 179). فلم يتّقِ، بل ولم يدُرْ في ذهنه أنه قد يمثل، يومًا في هذه الدنيا في قفص الاتهام، أمام قاضٍ من أبناءِ شعبه، مذلولًا مذمومًا مدحورًا.
في العام 1952 سارت في شوارع بيروت (عاصمة أصغر الجمهوريات العربية)، وحدها ومن دون سائر البلدات اللبنانية، مظاهراتٌ تطالب الشيخ بشارة الخوري بالتنحّي، على الرغم من أن السنوات التي كان قد قضاها لم تكن قد بلغت العقد الواحد. لم يمضِ أكثر من أربعة أيام على تلك المظاهرات حتى امتثل، رئيس جمهورية الاستقلال في لبنان، لإرادة الشعب وأعلن استقالته الفورية، ولم نرَ يومها نقطة دم واحدة تقطر من جرح. بعدها عاش الشيخ بشارة في بلده معززًا مكرّمًا حتى وافته المنية، فأقيم له مأتم رسمي يليق برئيسٍ سابقٍ للجمهورية. كما أقيم له تمثالٌ لم يزل منتصبًا في أحد أهم شوارع بيروت والمسمى أيضًا باسمه.
أما أنت يا «سيادة» الرئيس المخلوع فقد مزق شعبك حتى تلك الصور اللواتي اعتقدت أنّه سيتبارك بها مدى الدهر، فأين أنت من ذلك الرئيس الذي احتفظ بكرامته وفرض احترامه على الناس في حياته وفي مماته؟
وأنتم أيها الرؤساء «المبجلون» الذين ما زلتم «متعمشقين» بأرجل كراسي الحكم، ولو كلّف ذلك شعوبكم مئات بل آلاف القتلى، فبالله عليكم اتعِظوا مما جرى ويجري لمن سبقكم، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (يوسف 111). وامتثِلوا لإرادة أبناء شعوبكم الذين كسروا حواجز الخوف والرعب، التي نصبها أزلامكم من رجال «المباحث» أو «المخابرات» أو «الأمن» الخ… وبدأوا بتحطيم تماثيلكم وصوركم التي رُفعت، برغباتكم وأوامركم أنتم، في جميع أنحاء البلاد التي حسبتم أنّكم مالكوها مدى الدهور.
فالبقاء على كرسيّ الحكم لا يُفرض على الشعوب غصبًا بالحديد والنار، ولا بالتقتيل أو بالاعتقال أو بكمِّ الأفواه. والاحترام الذي تريدونه من شعوبكم لا يأتي من تلك التماثيل أو الصور، إنما يفرضه احترامكم أنتم لإرادة هذي الشعوب، وتذكروا ذلك المثل الذي علمونا إياه في صغرنا: «قيل للصغير: احترم من هو أكبر منك سنًا. قال: فليحترمْ هو نفسَه.»
وأخيرًا أذكركم بقول الشاعر:
قُلْ لِمَنْ حَسِبَ الزَّعامَةَ إرْثَةً *** ما الخَلقُ مُلكُ أبِيكَ كالأنعامِ
وأختم قائلًا: اعتبروا يا أولي الألباب، إن كنتم حقًا أولي ألباب.
[1] نشر هذا المقال في جريدة الحياة عدد 10/9/2011 رقم 17690.