في لبنان أيضًا نريد تغيير النظام

 في لبنان أيضًا نريد تغيير النظام

النظام في لبنان فريدٌ في نوعه، قد لا نجدُ له شبيهًا في سائر أقطار العالم. وَضَعت أولَ أسُسِهِ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أيدٍ غريبةٌ عنه منها البريطانيُّ والفرنسيُّ والروسيُّ والتركيٌّ… ومنذ ذلك الحين وهو يتعرض للتغيير والتبديل والتعديلِ، إمَّا بأيدٍ غير لبنانية، أو بتحريض منها، كما تعمل دومًا، على إيهام القاصي والداني بأنّ هذا النظام نموذجٌ يحتذى به. ولكن ما هو في الواقع هذا النظام؟

أولى قواعده، التشرذم السياسي والمذهبي:

ثمانية عشر قانونًا ترعى الأحوال الشخصية لأبنائه كلٌّ حسب مذهبه. فإذا به بدل أن يكون وطنًا موحدًا لجميع أبنائه تحول إلى ثماني عشرة مزرعة أو يزيد، يتحكم بكلٍ منها زعيمٌ سياسيٌّ اقطاعيٌّ، «حديثُ الأساليب، عصريُ الوسائل». هؤلاء الزعماء يجمعهم قاسمٌ مشتركٌ واحدٌ، هو التسابق والتصارع لاقتسام ما تبقى من خيرات هذا البلد. أمّا مصلحته فلا يعنيهم منها سوى كونها مادة للتشدق من على المنابر وأجهزة الإعلام بأنهم حُماتها. هم يسوقون المواطنين كما يسوق الرعاة القطعان، لكنَّ عِصِيَّهم هي الطائفية والمذهبية والحزبية الضيقة، يتلاعبون بها بعقول العامّة، يساعدهم في هذا طبقة من المنتفعين، معنويًا وماديًا، من المناصب التي فُرِضوا فيها كي يأتمر كلٌّ بما تقتضيه مصلحة ذاك الزعيم الذي فرضه، لا بما تقتضيه مصلحة وطنه. وإذا التقى اثنان من أولئك الزعماء في مجلس خاص تراهما يتعانقان، تقولهما صديقين حميمين، ولكن إذا ما لاح أمامَهما أحد أجهزة الإعلام، تراهما يهاجم أحدهما الآخر متناسيًا تلك القبل، بل ومكيلًا التهم بحقه، وقد يصل الأمر أحيانًا إلى الشتائم. نعم هؤلاء هم زعماء هذا البلد التعيس بهم.

ثانيها: المحاصصة المذهبية واستغلال المراكز والوظائف: 

يقوم كلٌّ من هؤلاء، الذين يسمَّون زورًا «زعماء»، بالمطالبة بحقوق طائفته. ولكن كيف؟ يريدون إصدار «سندات تمليك» بوظائف ومراكز معينة كي يفرضوا فيها من كانت كفاءته أنّه ينتمي أولًا إلى تلك الطائفة، وأن يكون ثانيًا من المقربين من أولئك «الزعماء». أمّا الكفاءة العلمية والعملية والنزاهة والإخلاص فأمورٌ أصبحت من الميزات التافهة البالية البائدة. وغالبًا ما يكون هذا المقرّب نفعيَّا ومتزلفًا قادرًا على أن يتعهّد رعاية مصالح ذاك الذي أنعم عليه بهذا المركز أو بتلك الوظيفة، تحت ستار المحافظة على حقوق طائفته. ثم لا يمضي وقتٌ طويلٌ حتى تظهر آثار النعم على هذا المقرّب فتمتلئ حساباته في البنوك ويشتري السيارات الفارهة والشقق الفسيحة الفخمة، ثم يبني في قريته «فيلة» أو حتى قصرًا، وقد يشتري أيضًا طائرة خاصة حسب درجة منصبه. عداك عن شراء العقارات في منطقته. وكي يظهر بمظهر المحافظ على تراث «أجداده» فقد يشتري المنازل القديمة المهدّمة أو الأثرية ويعيد ترميمها.

ثالثها: القوانين والأنظمة المطاطة

وكي يتمكن أولئك الزعماء من إدارة البلاد حسب ما تقتضيه «مصالح طوائفهم»، يفرضون على جهابذة التشريع إصدار قوانين وأنظمة مفصّلة على القياسات التي تكفل لهم تفسيراتها حسب المقتضى. فإذا كان تفسير بعض مفردات أو عبارات اللغة العربية ينطلق من مبدأ: «في المسألة قولان»، ففي القوانين والأنظمة اللبنانية كثيرًا ما نجد أن في «المسألة بضعة أقوالٍ» حسب الحاجة. فيتحوّل تطبيق هذه القوانين والأنظمة إلى الاستنسابية والعشوائية بما يكفل زيادة «كلفة الفتاوى» في تفسير نصوصها لتغطية أعباء خدمة مصالح «ملوك الطوائف» وإتباعهم. كما أنّ ما يُعدّل، كتابةً في النصوص الدستورية، فلا يطبّق منه إلّا ما يخدم مصالح أولئك الزعماء.

رابعها: الفساد في الإدارات

من جرّاء ذلك فقد غدت أعمال الإدارات والمصالح العامة تسير من دون رقيب أو حسيب، وتفشى الفساد حتى في زواياها. وإذا صدف وجود رئيسٍ، «من مخلّفات الذين لا يقدِّمون المصالح الشخصية على مصلحة الوطن»، وقضت ظروف العمل أن يعاقب مرؤوسًا ارتكب مخالفة ما، وكان هذا المرؤوس من غير مذهب ذاك الرئيس، أو كان «مدعومًا»، عندها تقوم البلاد ولا تقعد بحجّة أنّ ذلك الرئيس قد اعتدى على طائفة أو مذهب ذلك المرؤوس أو زعيمه. وتنبري أجهزة الإعلام بمهاجمة ذلك الرئيس، دفاعًا عن مصالح المذهب الذي تدّعي أنّها تنطق باسمه.

وبدل تسهيل معاملات المواطنين وتبسيطها، أسوة بما يجري في البلدان المتحضرة، نرى مسؤولي تحديث القوانين، يزيدون هذه المعاملات صعوبة وتعقيدًا بحجّة محاربة الفساد. ولكن، كي يتمكن المكلّف من إنجاز معاملته بالسرعة التي تقتضيها حاجته إليها، يضطّر مُرغمًا إلى دفع «بدل أتعاب ذلك الموظف الخدوم» بمبالغ تزداد قيمُها حسب أهميّة تلك «الخدمة»، وهنا نادرًا ما يُقبل هذا البدل بالعملة اللبنانية، لأن العملة الخضراء أضمن منها.

خامسها: قهر المواطن وإرهاقه

ولتغطية الهدر غير المعقول في الأموال العامّة الناتج عن الفوضى في الإنفاق، سواء كان عن سوء إدارة أو تقدير، أم عن التضخيم المفتعل في كلفة تنفيذ المشاريع، أم لتغطية عجز مصلحة الكهرباء، أو ما شاكلها، يعمد «ملوك الطوائف» إلى فرض الضرائب والرسوم والغرامات الباهظة والمجحفة، والتي تؤدي أيضًا إلى زيادة غلاء المعيشة، من غير أن يرفّ لهم جفن على أحوال هذا المواطن الذي بات صبره يفوق صبر «الحمير». وكي يخفّف عن كاهله من قيمة هذه الضرائب أو ملحقاتها يضطر المكلّف أن يلجأ إلى طلب «الخدمات» من ذلك الموظف «الخدوم»، ليصدر له «الفتوى» التي من شأنها ليس فقط، تخفيض المبالغ المتوجبة عليه، بل أيضًا تغطية كلفة تلك «الخدمة»، والتي تحدّد أيضًا بالدولار الأميركي، فكلمة الألف مثلًا أخف وقعًا من المليون ونصف المليون[2].

فيا أخي اللبنانيّ الذي يحبُّ لبنانه حقًا، لا رياءً، إلى متى سنبقى صامتين مقهورين تاركين رقابنا دانية تحت نير العبودية هذه؟ فلنقُمْ قومة رجل واحد مطالبين بإسقاط هؤلاء «الملوك». فإذا كان القذّافي قد حكم ليبيا ما يزيد عن الأربعين سنة فهم يحكموننا، وبالتوارث، منذ ما قبل نشوء دولة لبنان. أما إذا بقينا مشرذمين خانعين فعلى بلدنا السلام، فينطبق علينا المثل: «على نفسها جنت براقش».

ولتكن ثورة، سلاحها الأقلام والصوت المرتفع، تستمر حتى الإطاحة بهؤلاء الطغاة وبنظامهم الفاسد، لنعيد بناء لبناننا كما نريده نحن لا كما يريدونه هم.

وإلى اللقاء في ساحة الحرية.


[1] نشر هذا المقال في جريدة الحياة عدد 19/11/2011.

[2] باعتبار أن قيمة الدولار الواحد تساوي ألفًا وخمسمائة ليرة لبنانية.