صابر والملفوف[1]
صابرٌ خيّاطٌ للرّجال عُرفَ بمهارتهِ وظُرفه وحبِّه للمرح والمُزاح والدَّعابة، حتّى لو طالته شخصيًّا. وُلد وعاش في إحدى قصبات[2] لبنان في أواسطِ القرن الماضي. ولكنّه كان قصيرَ القامةِ، إذْ يُقدِّر الرَّاوي بأنّ طولُهُ لم يكنْ يبلغُ المترَ الواحد.
ومن المفارقة أن يكونَ معظمُ زبائن صابرٍ من طويلي القامة. وإذا ما جاءه أحدُهم، لأوّل مرّة، يطلب خياطة بِزَّةٍ، فكان صابرٌ، بعد الاتّفاق على الأجر وسائر التفاصيل، يقول له: الآن عليَّ تحديدُ المقاييس، وكي أتمكّن من ذلك عليك أن تختارَ، فإمّا أنْ تنامَ على الطّاولة أو أنْ أّضَعَ السُّلَّم.
بالتّأكيد كان ارتفاعُ الطَّاولة يناسبُ طول قامة صابر. أما السُّلّم فكان عبارة عن ظهر كرسيٍّ من كراسي تلك الأيّام ذوات الأرجل الخشبية المتينة المربَّعة، والمقاعدِ من قشِّ «الببير» الذي كانوا يصنعون منه الحُصُر، وهذا الظّهر يشكِّلُ امتدادًا لخشباتِ الأرجل الخلفيّة، وإذا ما فُكَّ عن المقعدِ والرجلِين الأماميّتين يُصبِحُ شبيهًا بالسلّم. وكان صابرٌ يسند أعلى سُلّمِه على ظهرِ الزَّبون ثم يصعد درجتين أو ثلاث ويثبّت رأس ماسورة القياس بأعلى الكتف مستعينًا بدبّوس يجمع هذا الرَّأس بثياب الزّبون ثم ينزل أرضًا لقراءة رقم المقياس ويسجِّله على دفتر المقاييس. أمّا إذا اختار الزبون النوم على الطاولة فتسهل المهمة كثيرا على صابر.
ويروى من دعابات أبناء بلدته معه، أنَّه كان يومًا في بيروت لشراء بعض حاجيَّات عمله. ولمَّا انتهى من مهمَّته تلك عادَ إلى حيثُ تقفُ «بوسطةُ» بلدته فتبيّن له أنّه تأخَّرَ عن موعد انطلاقِ عودتها إلى البلدة. وكانت وسائلُ النَّقل في تلك الأيّام بين بلدته وبيروت تقتصر على ثلاث أو أربع سياراتٍ و«بوسطة» واحدة تنطلق من البلدة في الصّباح الباكرِ وتعودُ بُعيدَ الظُّهر لتبلغَ البلدة نحو الغروب. كما أنّ السَّيارات كلَّها كانت قد تركت بيروت أيضًا. فاضطرّ أن يستعين ببوسطة البلدة الأقرب إلى بلدته ممنِّيًا النّفس بأن يجد فيها وسيلةً تنقله إلى بلدته.
وصل إلى تلك البلدة بعد عصرِ ذلك اليومِ الصَّيفيّ بقليل. وترجَّل من «البوسطة» ووقف في السَّاحة ينتظرُ. ووقتُ الانتظار يمرُّ ببطءٍ مملٍّ. ولكنْ بعد مضي ما يزيد عن الساعة رأى من بعيدٍ سيَّارة أحد أبناءِ بلدته، فأخذّ يلوِّح له بيديه الاثنتين إلى أن أوقفها السائق أمامه فسأله: ماذا بك يا صابر؟ ولماذا أنت هنا؟
أجابه صابرٌ: كنت في بيروت ولم ألحق ب«البوسطة» ولا بأيٍّ من السَّاقة الذين يعودون إلى البلدة، فاضطرِرّْت أن استقلَّ «بوسطة» هذه البلدة، فأرجوك يا أسعد، أغثني.
قال أسعد: ولكنَّ السَّيارة، كما ترى، ملأى بالملفوف، إنْ في الدَّاخل أم على «الدَّعسات».
قال صابر: أرجوك لا تتركني هنا أريد أن أعود إلى البلدة ولا أعرف أحدًا هنا يستضيفني وليس في هذه البلدة فنادق، وستقلق عائلتي أشدّ القلق.
قال أسعد، وفي نفسه أمرٌ ما: ليسَ لديّ والحالةُ هذه، سوى أن أضعَك في كيسٍ واقفًا على «دعسة» السَّيَّارة بجانبِي، وأربطَه بالباب حفاظًا على سلامتك.
وقد كانت تلك السَّيَّارة من طراز فورد، كانت العامّة تسميها «أبو دعسة»، سقفها من القماش السميك المقوى، و«الدعسة» – وهما اثنتان – عبارة عن لوحٍ معدنيّ متين مثبتٍ تحت بابي السيارة من كلّ جانب، عرضه بنحو الثلاثين سنتمترًا وطوله مساوٍ لفتحتي البابين، ليشكّل درجة يطؤها الشَّخص ليصعد إلى داخل السَّيَّارة.
فقال صابر: يبدو أنّك، يا أسعد، ترومُ إذلالي، ولكنَّ لهفتي على بلوغ منزلي وعائلتي تفرضُ عليّ القبول.
وهكذا كان، فاختفى صابرٌ في داخل الكيس الذي كان أطول منه، أما الطربوش فوجد له أسعد مكانًا في الداخل.
ويشاء القدر أن يوقفهما في الطريق رهطٌ من قوّات الجمارك يرأسهم ضابطٌ. سأل الضَّابطُ السَّائقَ عما في الأكياس وعلى «دعستي» السَّيَّارة. فأجابه، والابتسامة ظاهرة على شفتيه: كلُّها ملأى بالملفوف أنقله إلى أحد تجَّار بلدتنا.
فقال الضابط: كي نتأكد من صدق كلامك «بدنا نشيِّش». وهذا معناه، في لغة العاملين في الجمارك، أن يغرز شيشًا معدنيّا في الكيس عدة مرّاتٍ ليتحقّق ممّا فيه.
كلُّ هذا وصابرٌ معتصمٌ بالصَّمت. فأومأ الضابط إلى أحد مرؤوسيه لينفِّذ الأمر. فكانَ أوّلُ كيسٍ تقدّم منه هذا الأخير ذاك الذي يختفي فيه صابرٌ. وما أن وضع يده عليه في المكان الذي سيغرزّ فيه الشَّيش، حتّى تحرَّك صابرٌ تحتها وهو يصرخ: أنا هنا أرجوك لا «تشيِّش». فقفز رجلُ الجمارك، مرعُوبًا، إلى الخلف وصوّب سلاحه استعدادًا لأيّ طارئ. أما أسعد فاختلط صياحُه بالضَّحك راجيًا الجندي عدم استعمال السّلاح.
عندئذٍ أمرَه الضابطُ بفتح الكيس، وإذا بصابر يظهر منه وهو يشتم أسعد قائلًا: لولا لطفُ الله لكنتُ الآن في عداد الأموات، لعنك الله يا أسعد. ثمَّ روى للضَّابط شاكيًا ظُلم ابن بلدته ورذالتَه. وقد كان معظمُ أبناء المنطقة إمَّا يعرفون صابرًا أو سمعوا عنه ومن ضمنهم ذلك الضَّابط، الذي لم يتمكن، هو وأفراد الرَّهط، من كتم الضَّحك حتّى القهقهة.
ولما خمدت موجة الضَّحك، أمر الضَّابط السَّائق بأن يملأ الكيس بالملفوف ويضعَه على «الدَّعسة» ليُؤمن لصابرٍ مقعدًا في الدَّاخل، معفيًا إياه من تحويله إلى الشُّرطة.
[1] من رواياتِ الأصدقاء.
[2] القصبة: القرية، ولكن اصطلح بعضهم أنها أكبر منها وأصغر من المدينة.