فرنسا، «الأمّ الحنون» على مصالحها
يروي جرجي الحداد في الصفحة (88) وما يليها من كتابه «البلاغ المبين في أصل حركة سنة الستين»[2]، قائلًا:
«وها حوادث سنة 1919، وهي بدء سنة الاحتلال والتقسيم المشؤوم، تشهد كيف أن الجنرال غورو ضحّى بمسيحيي مرجعيون إذ حرّش عليهم المسلمين والمتاولة[3] وأعطى محمود بك الفاعور[4]، على ما يقال 45 ألف ليرة إنكليزية لكي يقوم بذبحهم، وهذا لكي يقولون [يقولوا] للرئيس ولسن إن النصارى بدون حماية فرنسا لهم هالكون لا محالة. وقد أخبرنا مواطنٌ من تلك البلاد، وهو رجلٌ فاضلٌ وممن يوثق بكلامهم، أن الفرنسويين استأجروا رجلًا جاسوسًا نذلًا من دير القمر وزودوه بتعليمات مآلها أنه، هو والذين يقدر أن يجمعهم حوله من الرجال، كلما قتلوا درزيًا أو متواليًا يأخذون عن كل قتيل ليرة إنكليزية. وبذات الوقت استأجروا رجالًا من المسلمين والدروز وطلبوا منهم ذات الطلب وهو أنهم كلما قتلوا رجلًا مسيحيًا يعطونهم على قتله ليرة إنكليزية أيضًا. فلما كثر عدد القتلى من الجانبين أبى الفرنسيس أن يعطوهم مالًا بل سلاحًا وذخيرة تعادل هذه القيمة. وزاد على ذلك مخبرنا بقوله: إنهم لما هجموا، أي المتاولة، على مرجعيون، إنهم أبرقوا [أي أهل مرجعيون] إلى الجنرال غورو في بيروت يستنجدونه فما كان من مجيب، وغاية ما هناك أنه بعد يومين أرسل طيارتين طارتا فوق تلك الربوع الملتهبة بالحريق والقتل وعادتا إلى بيروت. وكان الفرنسويون معسكرين بالقرب من مرجعيون يتفرجون فاستغاث المسيحيون بالضابط الإفرنسي لكي ينجدهم فأبى قائلًا ان ليس لديه أوامر أن يتدخل. فطلبوا منه على الأقل سلاحًا لكي يدافعوا عن أنفسهم بأنفسهم، مع أن عندهم الكثير من السلاح الذي أبقته الحرب، وما قولهم هذا إلّا لكي يمتحنوا محبة «الأم الحنون…» فأبى عليهم هذا قائلًا إنه لا يدافع إلّا عن الفرنسويين وليس عن السوريين الذين يمكنهم أن يذبحوا بعضهم بعضًا إلى ما شاء الله».
وبعد أن يروي قصصًا عن حوادث مشابهة يقول:
«وهذا ما كان يريده غورو باشا الغازي الذي بعد نيل مأربه الاستعماري وتثبيت قدم دولته في سوريا الحزينة، بعث واستدعى محمود بك الفاعور وعانقه وأنعم عليه بنيشان المعارف وعينه عضوًا شرفيًا في الأكاديمي فرنسيز. ولا تسل عن الضحك الذي حدث يومئذٍ من هذا التعيين وهذا النيشان وهذه المهازل المقرفة التي تتقزز منها النفس. ولما عُوتب الجنرال غورو من بعض وجوه المسيحيين على هذا العفو عن الرجل الذي لطّخ يداه بدم المسيحيين، قال بالحرف: (إن فرنسا تعرف المذنب من البريء فكل واحد عليه بالنظر إلى أشغاله الخاصة). ونظنُّ أن هذه أفضل وأصدق كلمة قالها هذا المستعمر لأنه هو وحده طبعًا يعرف المذنب من البريء.»
وهذا الأمر لا يقتصر على فرنسا وحدها فالتاريخ، بقديمه وحديثه، مليءٌ بما يشبهه، وقد تتغير الأسماء من حماية الأقليات إلى الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان أو الديمقراطيات إلى تحرير الشعوب من الظلم… إلى ما هنالك من تعابير لتبرير التدخل في شؤون الشعوب الضعيفة.
وإليكم هذه الحكاية، لعلنا نأخذ منها العبرة فنمتنع جميعًا عن طلب الحماية أو المساعدة من الأجنبي الذي لا يمكن أن يهتم إلّا بمصالحه فقط. تقول الحكاية:
يروى أن ثريًّا كان يملك مزرعة كبيرة وفيها أيضًا بعضُ الحيوانات الأليفة والدَّواب، ومن بينها فرسٌ أصيلة وبغلٌ اسمه «بلَيْق». وفي أحد الأيام تسلّل إلى المزرعة لِصٌّ، وعلى غفلةٍ من صاحبها والعاملين فيها، امتطى الفرسَ وانطلق بها مسرعًا، ولكنّ صاحب المزرعة رآه، فركب فورًا أقرب جياده ليلحق به، كما نبَّه أحد العاملين في المزرعة، واسمه «مبروك»، الذي اعتلى بدوره ظهر «بليق» وانطلق به كالسهم، ولما قارب «مبروك» أن يلحق باللص ليمسك به، ناداه صاحب المزرعة صارخًا: «ارجع يا مبروك، تفنى الأصيلة ولا بليق يردها».
فليكنْ، يا إخواني، «بليق» في كلِّ أجنبيٍّ يدَّعي الرغبة في حماية أيٍّ منا من أبناء وطنه، مهما جاروا عليه أو ظلموه.
[1] نشر هذا المقال في جريدة الحياة عدد الثلثاء 4 تشرين الثاني 2014.
[2] طبع هذا الكتاب في سان باولو في العام 1931، ومؤلفه جرجي الحداد هو ابن سارة شقيقة إبرهيم ابن الشيخ ناصيف اليازجي، وابن عمّ الكاتب والشاعر المهجري نجيب الحداد. وهو صاحب ومحرر جريدة «القلم الحديدي» التي أنشأها في سان باولو – البرازيل في العام 1914.
[3] هكذا كان بعضهم يسمي السنة مسلمين والشيعة متاولة.
[4] زعيم عشيرة الفاعور في الجولان، وقد كان شبه أمّيٍّ كما رأيته في خمسينيات القرن الماضي، وكنت يومها في سن المراهقة.