«عروس» فوزي

«عروس» فوزي

في خمسينيّات القرن الماضي، كان فوزي في العشرينيّات من سنوات العمر، وكان لم يزلْ عازبًا يعيش في منزل والديه في قريتهم الواقعة على أحد أطراف سهل البقاع في لبنان. وعلى الرّغم من الجهد الذي بذله والده، وبوسائل مختلفة، في ترغيبه وحضّه على التعلُّم، إلّا أّنه، ولبساطة عقله وتفكيره، أصرَّ على ترك المدرسة والدِّراسة، مذ كان في الخامسة عشر. فصار والده يصطحبه إلى أرضٍ زراعيّة كان يملكها في ذلك السّهل الخصيب. وبعد بضع سنواتٍ، وكان قد أتقن فنون الزّراعة، أصبح المسؤول عن تلك الأرض، يقوم بمفردِه بالحرث والزرع والرّيّ والجني. يغدو إليها صباحًا ويعود مساءً، حسبما تقتضيه المواسم. ولم يكن يحتاج إلى أكثر من نصف السّاعة ليقطع المسافة، ذهابًا أو إيابًا، سيرًا على القدمين.

كانت والدته تزوِّده، في معظم الأيّام، بما يحتاج إليه من الطّعام حتّى عودته مساءً. ولكن في الأحيان التي لم يكن فيها زادُه جاهزًا في الصّباح، كانت تُرسله إليه مع أحد أبناء الجيران أو الأقارب، من كانت وجهته منهم قريبةً من حقل فوزي.

وفي أحد الأيّام كانت الأمُّ منهمكة في أعمالٍ منزليّة منعتها من الطّبخ باكرًا، بخاصّةٍ أنّ وسائل التّبريد لحفظ الأغذية لم تكن بعد متوفّرة سوى لدى ميسوري الحال. وكي لا تترك ابنها من دون طعام، عمدت إلى تحضير «عروس» إدامها من مؤونة البيت. ثم كلّفت ابن الجيران بإيصالها إلى ابنها في الحقل.

ولمّا بلغ ابن الجيران مقصده، تناول فوزي منه «العروس»، ومن دون أن ينبسَ ببنت شفة، أخذ يلتهمها بسرعة وبنهمٍ، تقوله لم يذُقْ طعم الزّاد أسبوعًا كاملًا.

هذا المنظر جعل ابن الجيران يتسمّرُ في مكانه شاخصًا بعينيه ناحية فوزي، وكأنّه يشاهد مسرحيّة وينتظر رؤية نهايتها.

ولمَّا انتهى فوزي من مضغ أخر لقمة من «وليمته»، تناول إبريق الفخار الذي كان علّقه بغصن شجرةٍ وارفة الظّلّ، ورفعه عاليًا فوق رأسه فاتحًا فاه ليعبَّ المياه المتساقطة كالشّلال من «زلُّومة»[2] الإبريق. وبعدما ارتوى أعاد الإبريق إلى مكانه ومسح شفتيه براحة يده ثم مسح يديه بثيابه.

ولمّا أُسدل الستار في نهاية هذا المشهد، سأله ابن الجيران مستفسرًا عن نوع الإدام الذي كان في «العروس». فأجاب فوزي قائلًا: لست أدري، فهل رأيتني فتحتُها لأرى ما فيها قبل أن آكلها؟

[1]  «العروس» تسمية عاميّة كانت تطلق على رغيفٍ من خبز الصاج (الخبز المرقوق) يطوى نصفين ويوزّع الإدام على أحد الوجهين ثم يلف ليصبح على شكل أسطوانة طولها مساوٍ لقطر الرغيف، ويسمّيها بعضهم: «كدّوشة» لأنّهم يعتقدون، خطأً، أن «الكدش» هو «القضم» بالثنايا وهي الأسنان الأمامية. والإدام ما يؤكل بالخبز.

[2]  «الزَّلُّومة» تسمية عاميّة لفتحة الأبريق الأمامية ذات الشكل الأسطواني المخروط ليُشربَ منها.