خلاف شريف[1]
نام الشيخ س.خ. «حاصبيا» ليلة لم يكن في ليلة سواها أشوق منه إلى طلوع الصباح. ولم يكد غراب الليل يطير حتى كان الشيخ المذكور قد خف إلى صديقه في قرية عين قني[2] (قرب حاصبيا) وأقبل عليه مع الصبح يقرع بابه.
دهش الصديق من الشيخ يترك محله التجاري ويبكر إليه، وظن أن مهمًّا من الأمر حمله على ذلك، «إن الشفيق بسوء ظن مولع»[3].
لم يستقر المقام بالشيخ حتى حل كمره وأفرغه في حضنه وعد لصديقه خمسًا وعشرين ليرة عثمانية ذهبًا، وناوله إياها. قائلا: خذ هذه فهي لك وإن كنتَ لمَّا تعرف طريق مأتاها.
دهش الصديق، ولم تمد له يد لتناول الليرات، وقال: كيف يمكن أن تكون هذه لي. إني منذ رجعت من أميركا لم تجرِ بيني وبينك معاملة مالية ما. ولا يمكن أن تكون هذه صدقة لأنك تعلم أن الله قد رزقني ما أغناني عن الصدقات.
قال الشيخ: خذها يا أخي، إنها حلال لك حرام عليّ؛ وما كنت لأعطيكها لو كنت أعلم أنها ملكي ولا حق لك فيها.
قال الصديق: أتريدني على أن آخذها من غير أن أعلم وجه حقي فيها؟ إني لا آخذ ما لا حق لي فيه.
قال الشيخ: إنها لك، ووجه حقك فيها بيّنٌ واضح؛ وإليكَهُ:
أمس طرحت في حاصبيا دار للبيع بالمزايدة العلنية. ورأيت أنها بالمبلغ الذي انتهت المزايدة عنده، رخيصة فهي صفقة رابحة فأزمعت شراءها وزدت الثمن زيادة كانت هي الأخيرة فانتهت المزايدة عندها ووقع الشراء عليّ.
لكني وأنا أقدم على الشراء كنت أدري أن ليس لديّ من فضل المال ما يكافئ[4] ثمن الدار. وذكرت أنك بعد رجوعك من المهجر رغبت إليَّ أن أجد لك شغلا توظف فيه شيئًا من مالك ولذا عزمت على الشراء وأنا أنوي أن تكون أنت شريكي في نصفه. على هذا صحّت نيتي، وعلى هذا أقدمت على شراء الدار. ورجعت إلى بيتي في المساء على نية أن أغدوَ إليك هذا الصباح لآخذ منك ثمن نصف الدار وأرجع فادفع الثمن كاملا.
إني لكذلك، وإذا برجل يجيئني في أثناء السهرة يقول إنه أحوج إلى شراء الدار وأولى بها مني لوقوعها في جواره، وإن الجار أحقُّ بصقبه[5] ورجاني أن أنزل له عنها لقاء خمسين ذهبًا نقدني إياها. فلم أرَ لي بدًا من قبول رجائه وصرف المبيع إليه. ولما كنت على نية المجيء إليك لآخذ ثمن شطرك، ظللت على نية المجيء لأؤدي إليك نصف الربح. أما وقد اطلعت على ما جرى وعرفتَ وجه الحق في هذا المال، فخذ نصيبك منه مباركًا لك فيه.
قال الصديق: إن كنت تزعم أنك أريتني وجه حقي في هذا المال فإني ما كنت لأرى فيه رأيك. لا أنا اشتريت، ولا مالي خرج من صندوقي. فما زلت حيث كنت لا حق لي بالربح وما أنا بآخذٍ من كل ذلك غرشًا واحدًا.
ورد الشيخ قائلا: إن الأعمال بالنيّات؛ وما كنت لأقف عند ظاهر العمل وأترك باطن النية. فلو لم أنوِ أنك تكون شريكي في هذا الشراء لما كنت اشتريت، ولو لم اشترِ لما ربحتُ. إذن لم يأت الربح إلا من جهة نية المشاركة. ومن هذه الجهة نفسها قد استحققت أنت خمسًا وعشرين ذهبًا. إني مقتنع بأن ذلك لك، كما أني مقتنع بألاّ أقبل في هذا الموضوع جدالا.
هكذا نشأ الخلاف بين الرجلين وأوجب تدخل بعض أصدقائهما في تسوية الأمر. وانتشر الخبر في التيمين[6] وما والاهما. وظل مدة متحدث الناس في مجالسهم وسوامرهم وكان موضوعَ دهشة رجال من الجيش الفرنسي اقتضت وجودهم هناك حوادث حدثت في أثناء سنة 1921م اذكر منهم الملازم غاسيه “Lieutenant Gassier”.
هذا نموذج للتعامل في قوم تسودهم ثقافة خاصة من إرث العهد الماضي، ويرون مثلهم الأعلى فيه وفيما شاكله من المعاملات. وفيه، على قرب عهده منا، غرابة تستهجنها طباع هذه الأيام وأحوالها لما فيها من تكالب الناس على أخذ المال دونما نظر إلى حِلّهِ وحَرَمهِ وهو من هذه الناحية موضوع طريف يرى فيه القارئ شيئًا من الفكاهة. ننشره متسائلين كم يمكن أن نعد من أمثالهِ في هذا الوقت؟[7]
[1] هذه القصة كتبها الأديب الراحل عارف يوسف أبو شقرا (1899 – 1958) وهي منشورة في كتاب “أعمال غير منشورة في كتاب لعارف يوسف أبو شقرا” من تحقيق أسامة كامل أبو شقرا – الطبعة الأولى 2011..
[2] لعلها عين قِنْيَا، إذ هي التي قرب حاصبيا في الجنوب، أما عين قني، فهي في قضاء الشوف ما بين المختارة وعماطور.
[3] مثل يضرب للمعني بشأن صاحبه. [الشَّفِيقُ: المُشْفِقُ؛ شُفَقَاءُ].
[4] يكفي.
[5] أحق بما يليه ويقرب منه.
[6] وادي التيم: منطقة الأمراء الشهابيين. وهي تيمان: الشمالي وهو راشيا وما جاورها والجنوبي، وهو حاصبيا وما جاورها. (المؤلف).
[7] اين نحن اليوم من مثل أولئك الناس؟ (المحقق)