فرّقونا صغارًا، ويدعوننا ويدعوننا إلى الوحدة كبارًا!

فرّقونا صغارًا، ويدعونناإلى الوحدة كبارًا!

غرسوا في قلوبنا بذور التفرقة الطائفية والمذهبية، منذ كنّا أطفالًا، لا يعرف واحدنا ماذا تعني كلمة «دين». فبعدما عرفنا أسماءنا، وقبل أن نعرف انتماءنا الوطني، قالوا لنا: أنت مسلمٌ وذاك مسيحيٌّ. ثم قالوا: أنت سنيٌّ وذاك شيعيٌّ وذلك دُرزيٌّ. وأولئك: مارونيّ وأرثدوكسيّ وكاثوليكيّ وبروتستانتيّ…

في الأعياد الإسلامية ألبَس المسلمون أطفالهم الثياب الجديدة، وأطعموهم أشهى المأكولات وكعك ومعمول العيد، أمام أعين أطفال المسيحيين، الذين قال لهم آباؤهم بأنّ هذه ليست أعيادنا. وفي الأعياد المسيحية، كان أطفال المسيحيين، يزهون بثياب الشعانين والفصح والميلاد، يأكلون أصناف الحلوى الشهية ويتفاقسون البيض المسلوق المزين بأجمل الألوان، والمسلمون يقولون لأطفالهم: هذه ليست أعيادنا.

كل ذلك ولم يكن أيٌّ منا يعرف، في طفولته، من العيد سوى تلك الثياب والأطعمة. فلماذا مُنعنا من أن نتشارك فرحة تلك الأعياد سويةً؟

في المدرسة، وقبل أن أبلغ العاشرة، درسنا في كتاب التاريخ، المعتمد من قبل وزارة التربية الوطنية، أن السبب في اندلاع أحداث العام 1860 في جبل لبنان، بدأ خلافًا بين ولدين كانا يلعبان «الكلة»، أحدهما دُرزي الأهل والثاني مارونيّهم. ففهمت عقولنا الطرية بأنّ الدروز والموارنة أعداء.

ولما بلغنا الرشد، قرأنا في الدستور أنّ: «كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم».

وأنّ: «لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة لا ميزة لاحد على الاخر الا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون.»

ويوم أصبح العمل واجبًا معيشيًا، على كلٍّ منا، فُوجئنا بأنّ مذهبنا الديني، لا الكفاءة العلمية أو الجدارة الشخصية، هو الشرط الأول والأساسي والأهم، للحصول على الوظيفة العامة. وأنّ لأبناء كلّ مذهبٍ سقفًا في درجات سلّم تلك الوظيفة لا يحقُّ له أن يتجاوزه. وأنّ اللبنانيين، بالتالي، مصنّفون درجات بحسب تلك المذاهب المعترف بها قانونًا، وبأعداد أبنائها. أمّا من وُلد من أبٍ ليس على أيٍّ من تلك المذاهب، فيسمى، في وطنه، من الأقليّات، على الرغم من أنّ أباه وأجداده ولدوا وعاشوا وماتوا في هذا الوطن.

فنظام المحاصصة الطائفية والمذهبية، هذا، بدأ بنظام «القائمقاميتين»، واحدة مارونية والأخرى درزية، الذي فرضه قناصل الدول الغربية والسلطنة العثمانية في بداية أربعينيات القرن التاسع عشر، بديلا عن نظام الإمارة اللبنانية الذي دام لما يزيد عن القرون الثلاثة. ثم استبدلوه بنظام «المتصرفية» في العام 1860. وإبّان الانتداب الفرنسي فرض مندوبه السامي عرفًا على اللبنانيين بتوزيع الوظائف العامة بحسب مذاهبهم. وبعد الاستقلال استمرت الحكومات المتعاقبة، في تطبيق هذا العرف، حتى جاء «اتفاق الطائف» فثبت هذا العرف نصًّا دستوريًا في العام 1989، ليوقف «حروبا» عبثية دامت 15 سنة، بين أبناء الطوائف والمذاهب. فكان أن استغل «أمراء الميليشيات» هذا الأمر، ليحوّلوا «المذاهب» إلى «أحزابٍ سياسية» تخدم مصالحهم الخاصة، مدّعين أنهم حُماةٌ لمصالحها؛ وذلك جرّاء زحف الكثيرين من أبناء تلك المذاهب إلى أعتاب أولئك «الأمراء»، لكلٍّ منهم أمرٌ دعاه لهذا الزحف، فمنهم من اضطرته إلى ذلك الأبواب المغلقة على فرص العمل، ومنهم المستنفعون، ولو على كراماتهم، بالإضافة إلى أصحاب النفوس اللواتي لا تستطيع العيش إلّا بالاستعباد.

وعلى الرغم من هذا كلّه، فلا ينقطع أولئك «الأمراء» عن دعوة اللبنانيين إلى أن يكونوا يدًا واحدة في سبيل وطنهم. أمّا حينما يروا مجموعة مواطنين، من غير أتباعهم، متآلفة أفكارهم، يطالبون بتغيير أو إصلاح هذا النظام؛ فيعمدون إلى إثارة النعرات الطائفية أو المذهبية، ويتقاذفون التُهم فيما بينهم، كي يعيدوا تفريق أولئك المتآلفين.

ويطلع علينا منهم من يدعو، مرّات عديدة، إلى إلغاء النصوص الطائفية من الدستور والنظام، وعلى الُّغم من أنّ بيده أن يفعل ذلك، فنراه يعمل عكس ما يقول.

وقد بحثت في معاجم العربية، التي هي أغنى لغات العالم، لعلّني أجد كلمة لوصف هذا الفعل، ألطف من كلمة «نفاق». فهل لي من معين من أساطين اللغة؟

 

[1] نشرت هذه المقالة بتاريخ 5 تشرين الأول 2020، على موقع المنبّه الإلكتروني.