تشبهوا بالكبار
يروى أن ابن السمّاك دخل يومًا على هرون الرشيد. فكان أن طلب الرشيد الماء ليشرب، فقال له ابن السماك: مهلًا يا أمير المؤمنين، لو مُنعِتَ هذه الشُربة بكم كنت تشتريها؟ قال بنصف ملكي. قال ابن السماك: اشرب.. فشرب. فقال له: لو مُنعِتَ خروجها من بدنك بماذا كنت تشتري ذلك؟ قال: بجميع ملكي. فقال ابن السمّاك: إن ملكًا لا يساوي شربة ماء ولا خروج البول لجدير ألّا ينافس[2] فيه.. فبكى الرشيد.
لم يكن الرشيد رئيسًا منتخبًا لمدة يحدّدها قانونٌ أو عرفٌ، يفترضُ في نهايتها، كي يبقى على كرسي الولاية، إعادةُ انتخابه أو تعديلُ ذلك القانون، بل كانت ولايته تمتد حتى آخر أيام حياته، كما كان له الحق أيضًا في تعيين خليفة يحكم الرعية من بعده.
ولمّا وُلّي أبو بكر الصديق الخلافة، صعِد المنبر وقال:
«أيها الناس: أما بعد: فإني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقٍ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيتُه فلا طاعة لي عليكم…»
فإذا كان الرشيد على استعداد لأن يضحيَ بملكه هذا في سبيل كمّية من الماء تدخل جسده أو تخرج منه،
وإذا كان أبو بكر يقول للناس: إذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم،
وإذا كان عمر بن الخطاب يقول: كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
فكيف يستطيع رئيس دولة، ممن انتخبه شعبه، (إذا ما طالبه هذا الشعب يومًا، سواءً بإصلاح فسادٍ، أم بحيّزٍ من الحرية، أو حتى بإنهاء تلك الولاية المكرّرة مرّات عدة،) أن يضحي تقتيلًا وتجريحًا بالمئات، بل بالألوف، من هذا الشعب، من دون تفريق بين صغير أو كبير، بين رجل أو امرأة، في سبيل البقاء على كرسيِّ الحكم عامًا أو عامين يليان عشراتٍ قبلهما؟
وإن كنتَ أيها الرئيس الموقر لا تريد أن تتشبه بأبي بكرٍ أو بالرشيد، مدعيًا بأنك حررت بلادك من إمبراطور عاتٍ أو ملكٍ ظالمٍ أو رئيس خائنٍ، فلعلكَ تتشبه بالجنرال شارل ديغول الذي حرر فرنسا فعلًا من الاحتلال النازي، وأسّس الجمهورية الخامسة. وإن كنت نسيت قصته، إن كنت ممن عاصروه أم أنّك لم تقرأها، لأنك تتعالى عن قراءة كتب التاريخ، إذ كيف تفعل ذلك وأنت «تصنع التاريخ»؟ فسأوجزها لك:
في العام 1968 عَمَّت المظاهرات شوارع باريس وبعض فرنسا، وعلى أثرها أعلن رئيس الجمهورية الجنرال ديغول عن إجراء استفتاءٍ حول مشروع إصلاحات اجتماعية واقتصادية، وقرن إعلانه هذا بتصريح بأنّه إن لم يَنَل المشروع موافقة الأكثرية من الشعب، سيستقيلُ من منصِبِه. جرى الاستفتاء في 27 نيسان 1969، وفي اليوم التالي، أي 28 نيسان، جاءت نتيجة الاستفتاء، بأن قال 52.41%: «لا»، وقال 59،47%: «نعم»، فسقط المشروع. فإذا بباني فرنسا الحديثة لم ينتظر حتى صباح اليوم التالي ليعلن موقفه فبعد عشر دقائق فقط من منتصف الليل، صدَرَ عنه بيانٌ موجَزٌ جاء فيه حرفيًا: «أُعلِنُ توَقُّفي عن مُمارسة مهامي كرئيسٍ للجمهورية. ويصبحُ هذا القرار نافذًا عند ظهر اليوم: 29 نيسان 1969». وفي العام التالي توفي ديغول فبكاه الفرنسيون جميعًا.
فلماذا يا أيها «الرؤساء الأجلّاء» لا تتشبهوا بمن سبقكم من الكبار فيحافظ كلّ منكم على كرامته ويتنحّى قبل أن يُسقطه ويُذلّه شعبُه!؟ وتذكّروا دومًا قول الشاعر: «إنّ التشبّه بالكرام فلاحُ».
ثم بالله عليكم أيّها «المبجّلون»، ألم تُشبِع عيونَكم تلك السنوات التي قضيتموها في الحكم؟ أم أنكم تريدون فعلًا تطبيق المثل القائل:
«إن عينَ الإنسان لا يُشبعها إلّا التراب»؟
[1] نشر هذا المقال في جريدة الحياة العدد 17568 تاريخ 11/5/2011 الموافق 8 جمادى الثانية 1432. وقد كتبته على أثر الثورات الشعبية التي قامت في العالم العربي من تونس إلى مصر ثم اليمن وليبيا وسوريا، وسميت «بالربيع العربي»، وبعد أن تنازل كل من رئيسي تونس زين العابدين بن علي ومصر محمد حسني مبارك. بينما لم يزل الباقون مصرين على البقاء على كراسيهم.
[2] نافَسَه في الشيءِ منافسةً: رغب فيهِ على وجه المباراة في الكرم وبالغ فيهِ وغالى وزايد.