كفى أمتنا تفتيتًا
في كل يومٍ يطلُّ علينا «باحثٌ» أو «مؤرّخٌ» أو «عالمٌ بالأعراق» بمقولة: «نحن لسنا عربًا»، نحن سريانيون أو فينيقيون، أو آشوريون أو كلدانيون أو آراميون أو أقباط أو أكراد أو أمازيغ… وأنَّ لكلٍّ من هذه «الأعراق» لغتَه الخاصّة. ويحاولون إثبات نظرياتهم بطرقٍ شتى ومن دون الالتفات إلى آراء نظراء لهم في أنّ هذه التسميات هي لجماعاتٍ أو قبائل عربية نزحت من الجزيرة العربية، وأنّ لغاتهم لهجاتٌ عربية تطورت مع الزمن، وأن اللغة العربية إن لم تكن أمَّ ما يسمى ب«اللغات السامية» فهي أختهنّ الكبرى ووريثة الأمِّ.
ولمن ينكر وجود العرب، قبل الفتح، في ما كان يعرف بسوريا أو بلاد الشام، وهي اليوم العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، أورد ما يلي:
أولّا: لقد حكم روما الإمبراطور ماركوس يوليوس فيلبس (204-249 م) المعروف بفيليب العربي المولود في شهبا السورية بالقرب من مدينة بُصرى. وعن سبب لقبه بالعربي يقول بعضهم لأنّه ولد في الولاية العربية الرومانية، ويقول آخرون بأن والده كان أحد شيوخ القبائل العربية التي أقامت في اللّجاه (في محافظة السويداء حاليًا). وهذا دليلٌ واضحٌ على الوجود العربي في سوريا قبل دخول الجيوش العربية إليها بمئات السنين.
ثانيًا: تخبرنا كتب التاريخ أن قبيلتي المناذرة والغساسنة نزحتا من اليمن بعد انفجار سد مأرب، واستوطنت الأولى في جنوب وسط العراق، ومنها الشاعر العربي امرؤ القيس، حيث أسّست مملكة عُرفت باسم مملكة الحيرة، وأسّست الثانية مملكتها في الشام. وأن هاتين المملكتين كانتا على عداء بينهما لولاء المناذرة إلى دولة الفرس والغساسنة إلى الدولة البيزنطية. وقد استمروا على هذه الحال حتى فتح العرب العراق والشام في عهد عمر بن الخطاب. فلو لم تكن هاتان القبيلتان ذاتي عدد وقوة لا يستهان بهما لما استعان بهما الفرس والروم.
ثالثًا: لقد امتدت سلطة الدولة العربية من حدود الصين شرقًا حتى شواطئ المحيط الأطلسي غربُا وبحر قزوين شمالًا، وذلك لما يزيد عن القرون الثمانية. فلا نرى اليوم اللغة العربية سوى في العالم العربي وحده، بينما لا نراها في باكستان وإيران وأفغانستان وأندونيسيا وغيرها من البلاد التي اعتنقت الإسلام. كذلك زالت من إسبانيا التي حكمها العرب ثمانمائة سنة. ألا يعني هذا أنّ من كان من أصول عربية لم يتخلَّ عن لغته الأم؟
رابعًا: لقد حكم العثمانيون البلاد العربية، تحت راية خليفة المسلمين، أربعة قرون ولم يتخلَّ أبناء العالم العربي عن لغتهم على الرغم من محاولة تحويلهم إلى التركية.
خامسًا: أما عن «أحفاد صلاح الدين»، الذين يطالبون اليوم بدولة كردية، فيقول باحثون بأنهم من أصولٍ عربية، وسموا «كُردًا»، لا «كورد» كما يدّعون، لأنهم طُردوا من بلاد فارس إبان الحرب بين الأتراك، السنَّة، والصفويين، الشيعة، في أوائل القرن السادس عشر، لأنهم على المذهب السني. ولو عدنا إلى لسان العرب[2] باب (كرد) لقرأنا التالي: «الكَرْدُ: الطَّرْدُ. ابن الأَعرابي: الكُرْد، بالضم: جيل من الناس معروف، والجمع أَكراد؛ وأَنشد: لَعَمْرُكَ ما كُرْدٌ مِنَ أبناءِ فارِس، ولكنه كُرْدُ بنُ عَمْرِو بنِ عامِرِ. فنسبهم إِلى اليمن.»
وعليه أرجو السادة الباحثين والعارفين في شؤون الأعراق وعلماء الاجتماع، إجابتي على ما يلي:
1 – هل من المعقول أن يعيش أبناء «عِرقٍ» ما من دون أن يتزاوجوا مع أبناء أعراقٍ أخرى يعيشون وإيّاهم على أرضٍ واحدة، وعلى مدى أربعة عشر قرنًا؟
2 – كم هو عدد السنين التي يحتاج إليها انصهار سكان البلد الواحد ليصبحوا شعبًا واحدًا؟ ألا يكفيه أربعة عشر قرنًا؟
3 – ماذا يعني صدور قانونٍ فيما يسمى دولة إسرائيل يتيح لمن يريد تبديل هويته من عربيٍّ إلى آراميّ بإجراء إداريّ؟[3]
4 – أفتوني يا سادة في هوية ذرّيّتي، لقد شاءت الأقدار أن أُولد من أبوين يعودان بالنسب، كما أُخْبِرنا، إلى إحدى القبائل العربية مما قبل الإسلام، وأن يكون والدُ زوجتي ممن يسمونهم أكرادًا، ووالدتها من أبٍ تركيّ الجذور وأمٍّ «كرديّتها». فإلى أيٍ من الأعراق تريدونني أن أنسب ذريتي؟
5 – ألا يكفينا ما تعرّضنا له، ولم نزل، منذ مائة عام من تقسيم مصطنع كي نزيده اليوم بزرع الفرقة بيننا عرقيًا، بعد الطائفية والمذهبية، فتُملأ النفوسُ بالحقد والعداوة؟
6 – أيهما أفضل، أن نعيش في ظلِّ دولة كبيرة قوية يمكنها حمايتنا بالصمود في وجه الطامعين والأزمات، أم أن نكون مشرذمين في دويلات ضعيفة تتلاعب بمصائرها الدول الأخرى؟ ثم ألم يكن ضعفنا سبب تهجيرنا؟
عندما دعا المفكر أنطون سعادة، رحمه الله، إلى وحدة «سوريا الطبيعية» لم ينفِ عنها عروبتها بقوله بأنها جزء لا يتجزأ من العالم العربي. الذي أراده من أربع دول هي: الجزيرة العربية وسوريا ووادي النيل والمغرب العربي. أليس أفضل من ثلاث وعشرين؟
فمن المؤسف والمحزن أن يصل بنا اليأس والانهزامية إلى التخلي عن تضامننا ووحدتنا بدل أن نقوم قومة رجلٍ واحدٍ لندرأ عن بلادنا شرور الأزمات التي تعصف بنا منذ بداية القرن الماضي.
[1] نشر هذا المقال في جريدة الحياة في عدد الأحد 22/10/2017.
[2] معجم لسان العرب لابن منظور المتوفى (711 هـ).
[3] صدر هذا القانون في أوائل العام 2016.