الطائفية فرضها الأجنبي وتناقض الدستور
في العام 1842 وُضع حجر الأساس للنظام الطائفي في لبنان، يوم قُسِمت الإمارة إلى قائم مقاميتين، مسيحية ودرزية. هذا النظام فرضه ممثلو الدول الأوروبية على الدولة العثمانية التي كانت تعاني من ضعفٍ منعها من رفضه. وقد كان على رأس أولئك الممثلين كل من الكولونيل روز، قنصل إنكلترا العام، والمستر وود، قنصلها في دمشق، اللذين يئسا من استمالة موارنة لبنان لسياسة دولتهما التي كانت ترغب في الهيمنة على سوريا (أو بلاد الشام) لتضمن لها طريق الهند. وقد وصف رفعت باشا، ناظر الخارجية العثمانية آنذاك، مشروع تلك القسمة بقوله: «إنها بمثابة إشعال نار الحرب الأهلية.»[2]
وعلى أثر أحداث العام 1860 استبدل أولئك الممثلون، نظام القائم مقاميتين، بنظام المتصرفية الذي ارتكز أيضًا على توزيع المناصب بين المسيحيين والمسلمين بنسبة سبعة للمسيحيين وخمسة للمسلمين.
ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى، انتُدِبَت الدولة الفرنسية، العَلمانية وصاحبة شعار: «حرية – إخاء – مساواة»، «لتمدين» (civiliser) سوريا ولبنان. فكرّست، النظام الطائفي، في «لبنان الكبير»، بدلا من إلغائه، وأصبح انتخاب مجلس النواب يتم بنسبة 6 مسيحيين و5 مسلمين. وعلى أثر إحصاء العام 1932، بدلت بدعة تقسيم اللبنانيين بين مسيحيين ومسلمين، إلى بدعة أشدّ خطورة، بأن اعتبرتهم «أقليات دينية»، أي طوائف ومذاهب[3] فوزّعت المناصب بنسبة عدد أبناء كل مذهب. وأوجدت بالتالي نظام «المحاصصة» الطائفية. ولمّا حاولت أكثريّة أعضاء مجلس النواب، في أواخر ذلك العام، كسر هذا العرف في التوزيع، بالتوافق على انتخاب الشيخ محمد الجسر لرئاسة الجمهورية، علّقت السلطة المنتدبة، الدستور[4]…
وفي العام 1943 أبقى مجلس النواب على نظام «المحاصصة» هذا، بنص خجول، في المادة 95 من دستور الاستقلال، يقول: «بصورة عادلة ومؤقتة والتماسًا للعدل والوفاق تُمثّل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة.»
ثم انبثقت الوثيقة الدستورية عن المؤتمر الذي عقد في العام 1989 في مدينة الطائف السعودية، أي في خارج الأراضي اللبنانية. وبنتيجة هذه الوثيقة عُدلت بعض مواد الدستور بحيث جاء في المادة (24) ما يلي: «والى ان يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزّع المقاعد النيابية وفقا للقواعد الآتية:
أ – بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين.
ب – نسبيا بين طوائف كل من الفئتين….»
هنا أسال: هل كان يستحق أن يُكلّف اللبنانيون ما يزيد عن المائتي ألف قتيل، عدا عمّن أصيبوا بعطل دائمٍ، والدمار والتهجير، ثمنًا لمقعدٍ نيابيٍ واحدٍ كسبه المسلمون!!؟؟ يا خجلتنا من التاريخ.
ثم جاءت المادة (95) تقول: «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق الغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية…»
وعلى الرغم من مرور نحو ربع قرن من الزمن لم يؤخذ أي إجراء لإلغاء هذه «الطائفية السياسية»، فالقاعدة المتبعة في لبنان، للأسف، تقول: «لا يدوم إلا المؤقت». أضف إليها رغبة «الزعماء السياسيين» في المحافظة على «مكاسب منسوبة» إلى الطوائف التي يدَّعون تمثيلها؛ متجاهلين ذلك التناقض الواضح لهذا النظام مع سائر نصوص الدستور،
وأولها: مقدمته التي تقول:
«ج- لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل.
ح- الغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية.»
فأين أصبح هذا «الهدف الوطني الأساسي»!!؟؟
وثانيها: المادة (7) التي تقول: «كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم.» فأين هذه «المساواة بالحقوق»!!؟؟
وثالثها: نص المادة (9): «حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الاجلال لله تعالى تحترم جميع الاديان والمذاهب وتكفل حرية اقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على ألا يكون في ذلك إخلال في النظام العام.»
فكم مرة أخلّت هذه الطائفية البغيضة بالنظام العام!!؟؟ وهل ينتظرون تفكك وتفتت لبنان وتفريغه من أبنائه كي «يفكروا» بإلغاء ذاك النظام؟؟
ورابعها: نص المادة (12): «لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة لا ميزة لاحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة…».
فأين أصبح هذا الحق وعدم التمييز بين اللبنانيين ما دام لكل مواطنٍ سقفٌ لا يحق له أن يرتفع فوقه، بناه فوق رأسه مذهبٌ فُرض عليه يوم ولد، كما فرض عليه اسمه، ولم يختر هو بنفسه الانتماء إليه!!؟؟
فإلى متى ننتظر كي نتخلص من هذه الآفة التي تتسبب يومًا بعد يوم بهدم قواعد وركائز الوطن وبغرس العداوة في نفوس أبنائه؟؟ هل ننتظر من الأجنبي الذي فرض علينا هذا النظام أن يفرض علينا إلغاءه!!؟؟
وكفانا التغني بشعارٍ، يفرق ولا يجمع، يسمونه «العيش المشترك» فنحن نريد أن نكون مواطنين في وطنٍ واحدٍ موحدٍ لا فضل فيه لأحدنا على الآخر إلا بقدر انتمائه إلى وطنه لا إلى مذهبه.
[1] نشر هذا المقال في جريدة الحياة – بيروت عدد 27/4/2013، وفي جريدة الرسالة – كندا العدد 424 تاريخ 12/10/2018.
[2] مجموعة المحررات السياسية والمفاوضات الدولية عن سوريا ولبنان– فيليب وفريد الخازن – المجلد الأول – الصفحة (67).
[3] تاريخ لبنان الحديث – فواز طرابلسي – الطبعة الثانية ص. (153).
[4] تاريخ لبنان الحديث – فواز طرابلسي – الطبعة الثانية ص. (153).