خطبة في حفل تكريم المرحوم عارف أبو شقرا
أصحاب المعالي والسعادة، سيداتي سادتي
عرفته ولم أعرفْهُ، عبارةٌ جرت على لساني بعد أن تجمعت تحت ناظري هذه الكميةُ من الأعمال التي تركها عارف أبو شقرا والتي جمعتها في هذا المجلد. عرّفني به الدم الشقراوي الذي جرى في عروقه ولم يزل يجري في عروقي. ولكن هل كان من السهل عليّ، ولم أكن بعد قد بلغت العشرين من سني العمر يوم غادرنا إلى الدار الآخرة، أن أعرف فيه المربيَ والمعلمَ والشاعر والأديب والمؤرخ والصَحفي والنقابي والحزبي والمؤمن المتدين المتمسك بتعاليمِ دينه بعقلٍ راجحٍ، جعل المعلمَ كمال جنبلاط يقول فيه: «هذا التمسكُ بأهداب العقل جعل عارف أبو شقرا لا يتصورُ الإيمانَ والدّينَ أشياء متحجرة معقدة يجب أن تبقى على ما تغلفت به من تقاليد للحياة وعاداتٍ للفكرِ رجعية».
صحيحٌ أنه غادرنا منذ نيفٍ وخمسين سنةً، ولكنه لم يزلْ حيًا بيننا بروحِه التي زرعها في ما خلَّفه من تراث ولم تزل تجولُ بيننا، فكلما صدح صوتٌ في أحد معاهد جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية منشدًا:
عَهْدَنَا بالمقاصِدِ *** في ظِلالِ المَعَاهِدِ
ذُكِرَ عارفُ أبو شقرا شاعرُ المقاصد وكاتبُ أبيات هذا النشيد.
وكُلَّما ذُكرت جريدة الأنباء ذُكر معها «أبو ذرٍ»، صاحبُ افتتاحيتِها، «دعاء» ثم «شذرات»، منذ عددها الأول.
وكُلَّما نطق بالضاد واحدٌ ممن لم يزالوا على قيد الحياة، أطال الله أعمارهم، ممن تتلمذوا عليه، ذَكرَه شاكرًا له تلك الأسس التي أعطاهُ إياها في حَدَاثتِهِ كي يبنيَ عليها ملكةً لغويةً أصبحت، للأسف، نادرةً في أيامنا هذه، وقد رأينا اليوم عينةً منها في ما أتحفنا به أستاذُنا الكبير محمد البعلبكي، نقيبُ وعميدُ الصحافة اللبنانية، والذي خطر لي يومًا أن أسألَهُ قائلا: هل عرفت عارف أبو شقرا؟ فإذا به ينتفض قائلا بصوتٍ تعلوه نبرةُ الفخر: طبعًا عرفته فقد كان معلمي وأستاذي رحمه الله.
وهنا أرغب في أن أُلقيَ على مسامعِكم ما حصل لي مع معالي الأستاذ إدمون رزق في أول مرةٍ أخاطبه فيها، وكانت هاتفيًا، فبعد أن حييته عرَّفتُه باسمي، فأجاب بأدبه وخُلُقه: تشرفنا، ولكن لم أكد أقول له بأنني بصدد تجميع تراث المرحوم عارف أبو شقرا، حتى أسمعَ ذلك الصوتَ الوقورَ يتبدلُ إلى صوتِ من قد عثر للتوِّ على صديقٍ له بعد غياب طويل، ليقول لي بسرورٍ واضحٍ: نعم نعم هذا صديقي وزميلي، كنا سويةً في مجلسِ نقابة المعلمين إبّان حقبةِ الجهادِ التي خاضتها النقابة لاستصدار قانون المعلمين، وإنّي على استعدادٍ لأية مساعدة قد تطلبُها مني. فإذا بذلك الشعور الذي تملكني في بداية حديثي معه، في أنّي كنت أخاطب رجل سياسة لا يربُطُني به أيُ رابطةٍ، بل لم أكن قد اجتمعت به من قبلُ، ليتحول إلى شعورٍ نابعٍ من صداقةٍ متجذرةٍ تعود أصولُها إلى عقودٍ من الزمن. وهنا لا بد لي من أن أنوِّهَ بأن الصورتين الوحيدتين اللتين حواهما هذا المجلد كانتا من محفوظات (أرشيف) معالي الأستاذ إدمون وقد سهوت عن أن أشير إلى ذلك في متن الكتاب، فعذرًا يا أستاذي الكريم وجلَّ من لا يسهو.
وإذا ما أردت أن أسترسل في سرد أقوال كثيرين ممن التقيتهم ممن تتلمذوا على عارف أبو شقرا أو عاصروه فسيطول بنا المقام ولذا أرجوهم أن يتقبلوا اعتذاري، وأخصّ منهم بالذكر من هم بيننا الآن.
أيها السادة الكرام
كثيرون منا عرفوا من أعمال عارف أبو شقرا: تحقيقَه لكتاب: «الحركات في لبنان إلى عهد المتصرفية» الذي كتبه والده، وكُتُبَه: «ثلاثة علماء من شيوخ بني معروف» و«دروس في الإملاء والمحفوظات» و«خمسة شعراء جاهليين»، وهذا الأخير كتَبَه بالاشتراك مع صديق عمره الدكتور عمر فرّوخ، رحمه الله. وقد كنت أنا أيضًا واحدًا منهم، إلى أن بدأتُ بتحقيقِ أعماله الأخرى التي لم يتمكن، في حياته، من أن ينشرها كتبًا، والتي صنفتُها في الكتب الخمسة التي يضمها هذا المجلد، بتنوعها من شعرٍ وتاريخٍ وأدبٍ ونقدٍ اجتماعيٍ واقتصاديٍ وسياسيٍ وأدبيٍ وقَصَصٍ ورِواياتٍ من واقع الحياة في جبل لبنان في القرن التاسع عشر، وقد رغبت في وضعها في متناول أيدي أبناء لبنان عمومًا والأجيالِ الصاعدةِ خصوصًا، كي يطلعوا على أفكار وعادات وقيم آبائنا وأجدادنا.
كما أرجو كلَّ من يستطِيع أن يُنهِضَ من السُبات ما تحويه خزائنُ الآباء أو الأجداد من أعمالهم غير المنشورة، فليفعلْ من دون تردد إذ لا بد من أن يكون ولو في بعضٍ منها كنوزٌ فكريةٌ. وقد قال الشاعر الإنكليزي جون ميلتون: «إنّ قتْلَ كتابٍ جديدٍ لا يقلُّ عن قتْلِ إنسان. فمن قتلَ إنسانًا قتلَ كائنًا عاقلًا في صورةِ الله. أما من قتل كتابًا جيدًا فقد قتلَ العقلَ نفسَه، بل قتلَ صورةَ اللهِ عينَها».
وفي الختام، وبالنيابة عن أبناء عائلتي، أبو شقرا، وبلدتنا، عماطور، أتقدم منكم جميعًا بجزيل الشكر لمساهمتكم في إنجاح هذا الاحتفال، ولا بدّ لي من أن أخصّ بالشكر كلًا من: جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية ومنتدى الفكر التقدمي وجريدة الأنباء ونقابة الصحافة ونقابة المعلمين، والأب الروحي لهذا الاحتفال، واضع مقدمة هذا الكتاب، معالي الأستاذ إدمون رزق. ورحم اللهُ عارف أبو شقرا من كان السببَ في اجتماعنا هذا،
وعشتم وعاش لبنان.
[1] ألقيتُ هذه الخطبة في حفل تكريم المرحوم عارف أبو شقرا في قصر الأونيسكو في بيروت يوم الأربعاء الواقع فيه 23 تشرين الثاني 2011 لمناسبة صدور كتاب (أعمال غير منشورة في كتاب لعارف يوسف أبو شقرا) وهو عبارة عن مجلد يحوي خمسة كتب. والذي كان لي شرف تحقيقه.