عجائب السير في بيروت

إذا كانت مغارة جعيتا قد خسرت تصنيفها من بين عجائب الدنيا الطبيعية الحديثة[2] فلم نزل في لبنان نصنع الكثير من العجائب والمعجزات، فمن قال بأن زمن العجائب قد ولّى؟ فإليكم، على سبيل المثال لا الحصر، سبعًا من العجائب في أحوال السير في مدينتنا بيروت التي سميت يومًا «ست الدنيا».

 

العجيبة الأولى: إذا تجوّلت في شوارع بيروت واسترعى انتباهكَ أنّ على جانب أحدها لوحةً، وضعتها بلديتها، تشير إلى أن «وقوف السيارات مسموح»، من دون دفع البدل النقدي، فتأكد أنك أمام إحدى العجائب الحديثة. أما اللوحات التي تشير إلى منع الوقوف فلا تعدّ ولا تحصى.

العجيبة الثانية: إذا كنت راجلًا تسير على الرصيف منفردًا أو بصحبتك طفلٌ أو اثنين أو حتى كانوا عدة أطفال، أو تلامذة قد خرجوا للتوّ من مدرستهم، وأردتم أن تجتازوا الشارع إلى الرصيف الآخر وأوقف أحد السائقين سيارته، من دون أن يكون مرغمًا في ذلك، ليسمح لكم بالانتقال بأمان، فتأكد بأن في الأمر أعجوبة. ففي حضارة بلدنا العزيز، أفضلية السير هي لمن «يطحش أولا».

العجيبة الثالثة: إذا كنت تقود سيارتك واضطررت أن تتوقف لتؤمن طريقك، أو كنت متوقفًا عملًا بالنور الأحمر من إشارة السير الكهربائية، فتبدّل هذا النور إلى الأخضر، ولم يطلق سائق من خلفك العنان لبوق سيارته، فورًا ومن دون أن يراعي أن قد يكون أمامك ما يمنعك من الانطلاق بالسرعة التي يريدها هو، فتأكد أيضًا من أنها أعجوبة. وقد عرَّف أحدهم «اللحظة» بأنها: «الوقت الذي ينقضي ما بين تبدل نور إشارة المرور من الأحمر إلى الأخضر وانطلاق بوق السيارة التي خلف سيارتك».

العجيبة الرابعة: إذا كنت تمشي على الرصيف أو تريد اجتياز الشارع ورآك سائق سيارة أجرة ولم ينبهك ببوق سيارته أو يتوقف بقربك، حتى ولو منعك من اجتياز الشارع، كي يسألك بالكلام أو بالإشارة: «لوين يا أستاذ»، فتأكد أنّ في الأمر معجزة. فسائقو هذه السيارات غير مقتنعين بأنّ من يرغب في استئجار سيارة يسعى إليها بنفسه.

العجيبة الخامسة: سائق سيارة الأجرة الذي يوقف سيارته على جانب الطريق ليقل راكبًا أو ينزله، كي لا يتسبب في عرقلة السير، ولا يوقفها في وسط الشارع أو المنعطف أو حتى في وسط تقاطع الشوارع، فتأكد أن هذا السائق قد بُعث إلينا من زمن المعجزات الغابر. فسائقو سيارات الأجرة يؤمنون بأن الشوارع كانت من أملاك آبائهم ثم انتقلت إليهم بالوراثة.

العجيبة السادسة: سائقٌ آخر من زمن العجائب والمعجزات، ذاك الذي يراعي أفضلية المرور على تقاطعات الشوارع، في غياب رجل الشرطة، أو يتقيد بإشارات السير وبخاصة إشارة ممنوع المرور، اقتناعًا منه بأنّ نظام السير وضع لمصلحة جميع أبناء وطنه، ساقة وراجلين. فكأنما لوحات الإشارات وضعت للزينة فقط.

العجيبة السابعة: سائق الدراجة النارية الذي يتقيد بإشارات السير وينتظر النور الأخضر ليكمل سيره بأمان، أو لا يتجاوز السيارات من على يمينها…، هذا أيضًا يأتينا بالمعجزة السابعة من معجزات السير عندنا. فراكبو الدراجات مقتنعون بأن نظام السير لا ينطبق عليهم، ومما يؤسف له بأن لدى بعض رجال الشرطة القناعة عينها، لعدم اكتراثهم بما يرونه بأعينهم من مخالفات أولئك الدراجين.

 

 ولكن، وإذا نحينا جانبًا مقولة أن القيادة «فنٌ وذوقٌ وأخلاق»، فمن المسؤول عن تردي أحوال السير، ليس في بيروت وحدها بل أيضًا في جميع أنحاء لبنان؟ فرجل الشرطة يخاف، إذا ما طبق القانون، من أن يصبح هو المُعاقَب عوضًا عن المخالِف «المدعوم». وبيروت قد أصبحت مرآبًا للسيارات، والمواقف العامة نادرةٌ، وتلك التي فرضتها القوانين على المباني التي أنشئت منذ ما قبل السبعينيّات من القرن الماضي، تحول معظم المؤجَّر منها، كما الملاجئ، إلى محلات أو مستودعات تجارية إبّان الأحداث الأليمة، وبعد أن عاد الأمن إلى يد الدولة عمدت إلى الاكتفاء بالقبول بتسوية هذه المخالفات مقابل غرامة نقدية، عوضًا عن أن تفرض إعادة الوضع إلى ما كان عليه، فكانت النتيجة أن شُرِّدَت آلافُ السيارات إلى الشوارع. ومع ازدياد أعداد السيارات وقلة عدد المشاة، عمدت البلدية الكريمة إلى توسيع الأرصفة على حساب الشوارع بما فيها الحارات الضيقة. أما المربعات الأمنية التي تحيط بمنازل «المسؤولين» ومكاتبهم فتُحرِّم الوقوف في مساحات تتوسع بقدر «سمو» موقع هذا المسؤول.

 

وإلى أن يصبح لدينا حكومة تهتمّ بشؤون الوطن والمواطن نرجو ألا نزداد سوءًا ليس في أحوال السير فقط بل في جميع شؤون معيشتنا.

 

 

[1] نشر هذا المقال في مجلة الاقتصاد والأعمال اللبنانية عدد 15 كانون الثاني -15 شباط 2012 رقم 35.

[2] نُظّم في تلك الآونة، على الشبكة العنكبوتية، استطلاعٌ لاختيار عجائب طبيعية حديثة. وكأيِّ حدثٍ يجري فيه الاختيار استنادًا إلى آراء المشاركين إليكترونيًا، فلم يكن من المستغرب ألّا تنال مغارة جعيتا اللبنانية العدد الكافي لتصنيفها واحدة من تلك العجائب.