الإيمان الدّينيُّ ضرورةٌ إنسانيّة

لستُ هنا في معرضِ التبشير أو الدّعوة إلى دينٍ بعينه، فكلُّ الأديان تدعو إلى المحبّة والصِّدق والخير والعمل الصّالح. والدّين كما أفهمه هو مجموعةٌ:

من المعتقدات، على مُعتنقِه الإيمانُ بها مجتمعةً غير مُجزّأة، إيمانًا صادقًا، نابعًا من أعماق نفسهِ، راسخًا لا تهُزُّهُ نعمةٌ طرأتْ أو مصيبةٌ حلَّتْ، مهما صغرت أو عظُمت.

ومن التعاليمِ والواجباتِ لتنظيمِ علاقتِهِ كعابدٍ بمعبودهِ.

ومن قواعد أخلاقية تحكُمُ سلوكَه في معيشته وتنظّم علاقته بنظرائه في المجتمع وفي الإنسانيّة جمعاء، سواء كانوا على دينه أم لا، ومع الطبيعة وما فيها. وصولًا إلى قيامِ المجتمعات الصّالحة. فغايةُ الدّين إصلاحُ المجتمع.

والدّين والإيمان مرتبطان لا انفصام بينهما، فلا يكون الإنسانُ مؤمنًا من غير دينٍ، ولا يكون ذا دينٍ إذا لم يكن مؤمنًا.

وكي يكونَ مؤمنًا صالحًا عليه التقيّدُ بما جاء في مُحْكمِ كتبِ دينه من تلك المعتقدات والتعاليم والقواعد، متمسكًا بجوهرها لا بقشورها وظواهرها، ومن دونِ تزمّتٍ أو مغالاةٍ أو إفراطٍ أو تفريطٍ أو تنقيصٍ أو تجزِئة؛ لا كما حوّرَها أصحابُ المذاهب أو الغايات. وإن شاء التّشبُّهَ بمن سبقه من الأئمّةِ والفقهاء فليتّبعْ صالحَ أقوالِهم وأفعالِهم لا مظاهرَهم، فالثوبُ الذي يقي من حرِّ صيفِ الصّحراء لا يحمي من بردِ الشّتاء في الجبالِ ولا من قَرْسِ صقيعِ قُطبَي الكرة الأرضِية، فلكلِّ زمانٍ ومكانٍ أحكامُه ولوازمُه واحتياجاتُه.

لقد ميّز الخالقُ الإنسانَ عن سائر المخلوقاتِ الحيّةِ، بميزة العقل. وبقدر ما يوجّههُ هذا العقلُ يرتفعُ عن الصّفات الحيوانيّة. وبقدر ما يستعمله في الخير يسمو بإنسانيته. أمّا إن ذهب بهِ إلى الشّرّ فسيغدو أشرّ وأخطر من أشرس الحيوانات المفترسة. وهنا يأتي دور القيمِ والمُثلِ والمبادئ التي تدعو إلى صالح الإعمال، وتنهى عن سيّئها، وهذه سنجدها حتمًا في القواعد والتّعاليم الدّينيّة. فما يفرضه الدّين منها يقبله المؤمنُ بنفسٍ راضيةٍ، بينما ما تفرضه القوانين الوضعية ينفّذه خوفًا من العقاب. وهذا مما يجعلني أرى أنّ الإنسان بحاجةٍ ماسّةٍ إلى الإيمان الدّينيّ سواء في حياته الخاصّة أم كفردٍ في المجتمع.

 

لقد خُلِقَ الإنسان من مادةٍ هي الجسد، ورُوحٍ هو النفس. وبما أن الجسد مرتبطٌ بعالم المادة فهو يحتاج إلى الطعام والشراب غذاء يبقيه على اتصال بذلك العالم. كذلك، فإن النفس، أيضًا، بحاجة إلى غذاء روحاني يبقيها على اتصال بعالم الروح، الذي انبثقت عنه. والدين غذاء للنفس. وبقدر ما يكون قد تغذّى غذاءً صالحًا يكون قد تهيأ لحياة صالحة. «ومن شبَّ على شيءٍ شاخَ عليه».

 

فعلى المستوى الفردي، الإيمان بوجود خالقٍ، يحكم ويدير شؤون هذا الكون، يعطيه قوّةً روحيّة توفِّر له راحةً نفسيَّةً، لا يشعر بها غيرُ المؤمن. فالإنسان ضعيفٌ بطبيعته وبحاجةٍ إلى من يلجأ إليه عند المُلمَّات، تمامًا كما يلجأ الطّفلُ إلى والده كلما رأى ما يُخيفه. فعندما يواجهُ الإنسانَ موقفٌ يصعبُ عليه تخطّيهِ، فإن كانَ مؤمنًا فسيتركُ الأمر إلى مدبّر الكون ليُخلِّصَه منه، فيغدو كمن يضعُ عن كاهليه حملًا كاد يرزحُ من ثقله. أمّا غيرُ المؤمنِ فنراه قلقًا وخائفًا مما قد ينتج عن ذلك الموقف. فلنتخيلْ موقفَ أبٍ اشتدَّ المرضُ على طفله وأبلغه الأطبَّاء بأن حالته صعبةٌ جدًا، فإن كان مؤمنًا فسنراه يُسلِّمُ أمره لمعبوده، أما غير المؤمن فسيعاني من عذاب الخوف والقلق. وقد قال أحد الحكماء: «لولا الإيمان لهلك الإنسان».

 

وبما أنَّ «الإنسانَ مدنيٌّ بالطبع»، فلن يكون مجتمعه صالحًا إلّا إذا صلح أفراده. فمن يخالفُ القانون الوِضْعِيَّ يخاف فقط من العقوبة التي يحددها هذا القانون، أما المؤمن فرادعه في نفسه (ضميره). وإذا كان القانون يعاقب المجرم أو الجاني فالإيمان الدّينيُّ يردع عن ارتكاب الجرائم والفواحش والسُّحت. وإذا لم يقع السارق بيد عدالة الدولة فلن يسلم من عقاب الضمير الذي يوجده الإيمان.

 

والقانون، من دون أدنى شكٍّ، ضروريٌّ لتنظيم شؤون المجتمعات، ولكنَّه لا يكفي وحدَه لضبط سلوك البشر لأنّ سلطانه يكون على ظاهر أعمالهم لا على بواطنهم، ومهمّته معاقبة المسيء من دون مكافأة المحسن.

ومن الممكن أن يتحايل الناس على القوانين، ويطوِّعوا نصوصها لأهوائهم، ويهربوا من العقوبة، فالقانون يكفُّ العدوان الظاهر ويرفع الظُّلم البيِّن. أما الاختلاس والتزوير المموّه، والباطل المغلف بغلاف خادع، ونحو ذلك مما يرتكبه أرباب الشّهوات، فلا يستطيع القانون دفعه لأنّه غير قادر على معرفة خفايا الحيل والدسائس التي تنطوي عليها بعض النفوس. أضف إلى ذلك أنَّ المكلف بتطبيق القانون قد يكون ممن تملكتهم الشهوات في تفسير نصوصه على هواهم. فمن ذا الذي يستطيع أن يمنعه من طاعة شهواته المتسلطة على عقله؟ إنّ الإيمان والشعور برقابة الخالق هو الكفيل بتصحيح النفوس وتطبيق النِّظام، لا خوفًا من العقاب ولكن رغبة في مرضاة مدبّر الكون.

وهكذا يصبح الإيمان الدينيُّ بالتالي حاجة للإنسانية جمعاء، فإن صلحت المجتمعات صلحت البشرية جمعاء.

 

ولمن يعتقد أن الدّين سببُ التخلّف، يجيبه الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون (Francis Bacon): «إنّ قليلا من الفلسفة يقرِّب الإنسان من الإلحاد. أمّا التعمُّق في الفلسفة فيردُّه إلى الدّين.»

 

وفي الختام أستعيد بعضًا من أقوال الحكماء:

«لولا الدّين، لدُكّت معالم التمدُّن.»

و«الحياة، لولا الإيمان، لغزٌ لا يُفهم معناه.»

و«من لا عقل له لا دينَ لهُ، ومن لا دين له لا أخلاق له.»

و«لو لم يكن الله موجودًا لخلقه بنو الإنسان».

 

[1] نشر هذا المقال في جريدة الرسالة – كندا العدد 438 تاريخ 31/5/2019.