شاي سعيد
اعتادَ يوسُفُ واثنان من أترابه، في أربعينيّات القرن العشرين، أن يقضوا، في دكّان قريبهم سعيد في ساحة إحدى قرى جبل لبنان، بعضًا من الوقتِ بعد فراغهم من أعمالهم في أراضيهم الزراعية.
وكانوا يتحادثونَ ويتناقشونَ في أمورٍ متفرّقة، وبخاصّةٍ في السّياسة العالميّة وما يدور بين قطبي الشّرقِ والغرب، الاتّحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، وفي السّياسةِ العربيّة واللبنانيّة من دون أن ينسَوا، بالتّأكيد، شؤونَ قريتِهم وأبنائِها.
وكان سعيدٌ كثيرًا ما يشاركُهم الأحاديثَ في الأوقات التي يكون فيها دكّانُه خاليًا من الزّبائن، وما أكثر تلك الأوقات، إذ أنّ كثافة سكّان القرية ليست كما هي في المدينة كي يؤمَّ الدكّانَ ذلك العدد من الزبائنِ الذي من شأنِه إشغالُه الوقتَ كلَّه.
وغالبًا ما كان موضوعُ النّقاشِ بين الثّلاثةِ يؤدّي إلى ارتفاعِ أصواتِهم وحِدّتِها، ولكن، من دون أنْ يُفسِدَ ما يربِطُ بينهم من الوُدِّ والمحبّة، فتراهم يفْتَرِقون في نهاية جلْسَاتهم، أقرباءَ مُتَحابّين لا يُعكِّر اختلافُ الرَأي صفوَ علاقاتِهم، ومتواعِدِين اللقاءَ في الغدِ أو بعدَه.
وكان سعيدٌ معروفًا لدى الجميعِ بظُرْفِهِ وحبِّهِ للفُكاهةِ والدُّعابَةِ وتدبيرِ «المقالب» المُضْحِكَة، حتّى ولو كانت معَ أقربِ المقرّبين إليه. كما أنّه مضيافٌ لا ينسى يومًا تقديمَ الشّايِ أو القهوةِ لضيوفِه في الدُّكّان، مما يصنعُهُ بيديْهِ، مستعينًا في ذلك بـ«بابور الكاز».
وفي أحدِ الأيّام حضرَ يوسفُ إلى الدكّان. ولكن وبعد الانتظار لبعض الوقت، لم يَحضَرْ أيٌّ من رفيقيه؛ فقام سعيدٌ كعادته بتحضير الشّاي لضيفه، الذي تربِطُه به رابطة النسب، ولكنّه هذه المرّة رغب في مداعبته، فدَسّ في الكأس مقدارَ مِلعقةٍ من «المِلح الإنكليزيِّ»، وزاد في كميّة السّكر ليُخفي اختلاف الطّعم. (و«المِلحُ الإنكليزيُّ»، حسب تَسْمِيَةِ العامّةُ، دواءٌ يشبه مِلح الطعام، يُذابُ بالماء ويُشرَبُ لتليِينِ الثَّفْلِ الشَّديدِ اليُبُوسَةِ وتَسهيلِ إخراجِهِ من الأمعاء. وقد يُسمَّى، أيضًا «شَربَة مِلح إنكليزي»).
وبعدما احتسى كلّ منهما ما في كأسه بوقتٍ، قدَّره سعيدٌ كافيًا لبدْءِ مفعولِ «المِلح الإنكليزي»، راحَ يقصُّ على ضَيفهِ «الخالْ يوسفْ»، الحكاياتِ والقَصصَ المُشَوِّقَة. وكان هذا الأخيرُ قد بدأ يشعرُ بحركاتٍ غيرِ اعْتِيادِيَّةٍ في أمعائِه، فصارَ يتمَلْمَلُ على مَقعدِه. وكلّما أرادَ الانصراف، كان سعيدٌ يخترعُ له الأساليب ليستبقيَه وقتًا أطول، إلى أنْ تأكّد من أنّ «المِلح» قد فعل فعله.
فقام يوسُف، ويدُه على مَعِدَتِه، وخرج من الدكّان متوجّها إلى منزلهِ، مُتثاقِلَ الخُطى خوفًا ممّا لا تُحمَدُ عُقْبِاه. ولمّا توارى، يوسفُ قليلًا، نادى سعيدٌ أحدَ الأولادِ الذين كانوا يلعبون بالقرب من دكّانه، وقال له: اذهبُ مسرعًا إلى منزلِ «الخال يوسُف» وقلْ لزوجتِهِ بأنّه قد اشترى ظَرْفًا من السّمْنِ الحَمْويِّ الفاخِر، وبينما هو في طريقِهِ إلى البيت، تبيّنَ له أنَّ الظَّرفَ مثقوبٌ وأنّ السّمنَ بدأ يسيلُ منه، فهو بحاجة إلى وعاءٍ يحفظُ ما تبقى في الظَّرِفْ.
حملت الزوجة «لَكَنًا» من النُحاس المُبَيَّض، وتوجَّهتْ مُسرعةً لملاقاة زوجها، وإذا بها تراه يسير ببطءٍ ملتصقَ الرِّجْلينِ يلُفُّ الواحدةَ أمامَ الأخرى، ووجهُهُ يكادُ يتفجّرُ الدّم من مسامِ جلدته. ولمّا رآها صاحَ بصوتِ المُتألّم: لقد فَعلَها سعيدٌ هذا ال… وراحَ يَكِيلُ له الشّتائم متوعدًا بأنّه سيُدفِّعُهُ ثمنَ فعلتهِ هذهِ غَاليًا.
فأدارت الزوجةُ وجهها، مُحاوِلَةً كتمَ صوتِ ضحِكِها، اتِّقاءَ غضب زوجها. وسبقته إلى المنزل لتحضيرِ ما يلزمُ لمُعالجَةِ نتائجَ دُعابةِ سعيد.