الحزنُ القاتل
حزينٌ أنا من رؤية بلادي تتمزَّقُ وتتفسّخ وتتفتّتُ أمام عينيّ وليس بيدي أن أفعل شيئًا سوى ما يخطّه قلمي، في زمنٍ أصبح فيه القرّاء نادري الوجود. وما يحزُّ في نفسي، بل ويُدمي فؤادي، أن يكون أبناؤها هم أكبر المساهمين في تنفيذ ذلك وبكل جهدٍ وإخلاص، ثم يتّهمون الأجنبيَّ بحياكة وتنفيذ المؤامرات عليها.
بلاد العالم أجمع تتجه إلى الاتحاد أو الوحدة، وبلادنا تسير نحو التقوقع. هذه أوروبا، المتعددة القوميات واللغات، تتحد. ونحن نعمل للعودة إلى «المدينة المملكة». كان آباؤنا وأجدادنا يعملون على التخلص من كيانات «سايكس – بيكو» ليعيدوا «بلاد العُرب أوطانًا»، أمّا اليوم فقد نسينا هذا البلاء، بل أصبحنا نعمل جاهدين لتفتيت حتى تلك الكيانات، ونصفّقُ لكل نزعة انفصالية جديدة، سواء كانت طائفية أم مذهبية أم عرقية.
فلبنان، الذي علَّم البشرية الحَرْفَ، والذي أرسى قواعد وحدة انتماء أبنائه ميثاقُ العام 1943، تحول إلى دويلات ومزارع بعدد طوائف ومذاهب و«زعماء» من بقي فيه من أبنائه. هؤلاء «الزعماء» يتبجح كلٌّ منهم بأنه يعمل لمصلحة طائفته ولكنَّ الواقع أنّهم يلعبون على الأوتار الطائفية والمذهبية لمآربهم الخاصّة ولتقاسم ما تبقى من خيرات لبنان؛ وليس فيهم من يهتمُّ بمصلحة هذا البلد التعيس بهم. ثم يطلع علينا بعضهم ويطالب باعتماد النظام الفدرالي على رقعة من الأرض قد لا تساوي مساحتُها مساحة قضاء في بعض الدول.
وفلسطين، الأرض المقدسة، مهد المسيح (عليه الصلاة والسلام) وأولى القبلتين، أصبحت في عالم النسيان. يقتل بنو صهيون أبناءها بأوحش مما تُكافحُ به الجرذان، ويغيّرون معالمها، ولا من يسأل.
والعراق، مهد الحضارات، بعد أن قُتلَ وهُجِّرَ الملايين من أبنائه، غدا اليوم ثلاث دويلات، وما زال التقتيل والتذابح، بين سنّي وشيعي، الخبزَ اليوميَّ لمن بقي فيه من مسلميه، بعدما هُجِّر معظم مسيحييه، أراه سائرًا نحو المجهول.
وسوريا، قلب العروبة النابض، تسيل الدماء فيها أنهارًا منذ بضع سنوات، يُقتل من أبنائها مئات الألوف ويُهَجَّر الملايين. أما من بقي فيها منهم، فيستعينون بالأجنبي ليقتل الأخُ أخاه، لاختلاف المذهب أو الرأي. بل هم يتفنّنون بأساليب القتل والذبح والحرق وتدمير «أرض الحضارات». سوريا التي وقف أبناؤها بجميع انتماءاتهم، الدينيّة والعرقيّة، في أول عشرينيّات القرن الماضي، وقفةَ رجلٍ واحدٍ، بوجه فرنسا التي أرادت جعلها أربع دويلات، أخذت رياح التقسيم تعصف، لا على الأرض فقط، بل وفي النفوسِ أيضًا. ولواء إسكندرون السليب لم يعد يذكره أيٌّ منهم. والمؤسف، أيضًا، أن أحفاد صلاح الدين، بعدما ساهموا في تقسيم العراق ها هم اليوم يدقُّون أول مسمارٍ في نعش وحدة سوريا.
قديمًا قيل: «العربيُّ وجملُهُ يشكلان إمبراطوريةً مستقلة»، فهل نحن سائرون اليوم إلى تحقيق هذه المقولة مجدَّدًا؟
وما يزيد في أحزاني أولئك الذين انتقلت أدمغتهم من رؤوسهم إلى فُروجِهم، وانتشروا في أصقاع المعمورة، يكفِّرون من ليس على رأيهم، ويفجِّرون أنفسهم ليقتلوا مئات الأبرياء في المطارات ومحطات مترو الأنفاق، وفي المسارح وملاعب الرياضة وفي الساحات العامة والأسواق، بعدما أقنعهم بعض أصحاب اللحى المُحنًّاة والشواربِ المحفوفةِ، في أنّ ذلك سيوصلهم إلى جنات النعيم حيثُ سيُزَوجُون بحورٍ عينٍ لا يُحصى عددُهن. فغدا العربيُّ، بخاصة، والمسلمُ عامةً، في نظر الآخرين، إرهابيًّا يقتلُ للقتل لا فرق عنده أقتلَ طفلاً أم امرأةً أم عجوزًا.
فيا إلهي، هل كان قدري أن أحيا إلى هذا الزمن الذي ماتت فيه الضمائرُ وانعدم فيه الحسُّ الوطنيُّ والشعورُ الإنساني، واغتيل فيه حلمُ وجهادُ آبائنا وأجدادنا في العيش بكرامة في وطنٍ موحدٍ مستقلٍّ؟
فوا حرَّ قلباهُ عليكِ يا بلادي.
[1] كتبت هذا المقال في 25/3/2016 ونشر في جريدة الحياة عدد 26/4/2016، ونشر أيضًا في العدد 418 من جريدة الرسالة – مونتريال بتاريخ 29/6/2018.