هلال رمضان
منذ فُرضَ الصيام على المسلمين، وأولو الأمر يعتمدون الرؤية بالعين المجردة للتحقّقِ من ولادة الهلال لتحديد بداية ونهاية شهر الصيام. ولم تزل هذه القاعدة معتمدة حتى يومنا هذا. وقد تستعين بعض الدول بالمراصد التي تساعد عين المراقب في تحسين الرؤية بالعين. وعلى الرغم مما نشهده يوميًا من التقدم العلمي، وخاصة في علم الفلك، الذي أصبح يُنبئنا بالأحداث الفلكية ومسيرات الكواكب والنجوم لمئات السنين المستقبلية باليوم والساعة والدقيقة والثانية، كالخسوف والكسوف واقتراب النجوم والكواكب من الأرض، وغيرها الكثير، نرى أن الكثير من علماء الدين يُصرّون على أن تبقى الرؤية بالعين هي الأساس في التحقّق من ولادة الهلال. وإذا سألنا يومًا أحدَ هؤلاء العلماء عن مقولة التناقض بين الدين والعلم، نراه ينبري يتلو علينا الآيات من القرآن الكريم التي تنفي عنه هذه التهمة.
تقول الآية الكريمة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ…} (البقرة 185)، وفي تفسيرها يقول الطبري: «اختلف أهل التأويل في معنى شهود الشهر. فقال بعضهم: هو مقام المقيم في داره، قالوا فمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فعليه صوم الشهر كله.» وفي تفسير الجلالين: «شهد بمعنى حضر.» ويقول ابن كثير: «من شهد استهلال الشهر أي كان مقيمًا في البلد حين دخل شهر رمضان.»
وفي لسان العرب لابن منظور: «وقوله عز وجل: فمن شَهِدَ منكم الشهر فليصمه؛ المعنى: فمن شَهِدَ منكم في الشهر أَي كان حاضرًا غير غائب في سفره.»
فمما تقدم نستنتج أن المقصود في قوله تعالى هنا: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} إذًا، ليس مشاهدة ولادة الهلال بالعين بل تحديد الحال الموجبة للصيام.
وإلى التفسيرات السابقة لمعنى «المشاهدة»، أضيف: لو حلَّ رمضان شتاءً وكنتُ أعيشُ في بلدٍ تغطي الغيومُ سماءه عدَّة أيامٍ متتاليات قد تبلغ أحيانًا شهرًا أو أكثر، فأنَّى لي إذًا أن أرى بالعِيان ولادة الهلال وبالتالي ينتفي عني واجب الصيام لأنني لم أرَ الولادة ولا حتى الهلال؟ بخاصة أنّ الآية حددت واجب الصيام على «مَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ». وهذا، حسب ظنّي، ما جعل العلماء يعتمدون على قول رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاثِينَ.»
وفي معنى «الرؤية» يقول ابن منظور، في «لسان العرب»: (واحدًا منها من رُؤْية العَيْنِ كقولك كما تُبْصِر، والآخر من رُؤْية القَلْبِ في معنى العلم فيصير كقولك كما تَعْلم، والثالث من رأَيْت التي بمعنى الرَّأْي الاعتقاد… فتكون ما ترى مرة رؤية العين، ومرة مَرْئِيًّا، ومرة عِلْمًا ومرة مَعلومًا، ومرة مُعْتَقَدًا. وقوله تعالى: {ما كَذَبَ الفُؤَادُ ما رَأَى} [النجم 11]؛ يقول: ما كَذَبَ فؤَادُ محمدٍ ما رَأَى؛ يقول: قد صَدَقَه فُؤَادُه الذي رأَى.)
وفي القاموس المحيط للفيروز بادي: (الرُؤْيَةُ: النَّظَرُ بالعَيْنِ وبالقَلْبِ.)
ويخاطب تعالى نبيّه الكريم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (الفيل 1). وأصحاب الفيل هم أبرهة، ملك اليمن، وجيشه الذين توجهوا إلى مكة بهدف هدم الكعبة، وقد سمّي ذلك العام «عام الفيل». وقد أجمع المؤرخون على أنّ مولد النبيّ ﷺ كان في ذلك العام، وبالتالي، فهل يمكن له وهو طفل حديث الولادة أن يرى عِيانًا ما فعل تعالى بهم؟ وعليه يكون المعنى المقصود بالرؤية هو العلم يقينا بذلك الحدث.
فالرؤية بالعلم، أو ما يمكن أن نسميها: «رؤية اليقين»، أراها أدقَّ من الرؤية بالعين لأن العين قد تُخدع أحيانًا، والسراب أحد تلك الخدع. ثم هل يمكنني أن أنكر، مثلًا، وجود البرازيل، أو أي دولة أصغر منها، على الكرة الأرضية على الرغم من أنني لم أزرها يومًا؟
وانطلاقًا من قوله تعالى في الآية (185 البقرة) المذكورة آنفًا: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، أسأل العلماء الكرام:
1 – ماذا يمنعنا من تحديد أوقات ولادات الأهلَّة مسبقًا، بإصدار التقويم (الروزنامة) الإسلامي الموحّد، استنادًا إلى حسابات الفلكيين وعلومهم وأجهزتهم ذات التقنية العالية التي بإمكانها تحديد أوقات أدقِّ الأحداث الفلكية بالساعات والدقائق والثواني، قبل حدوثها بعشرات ومئات السنين؟ ولماذا أيضًا لا يتم تأسيس مركزٍ إسلاميٍّ واحدٍ خاصٍّ بذلك؟ وإن شئتم، فليكن العاملون فيه من المسلمين المتخصصين في علم الفلك، وهم بالتأكيد كثيرون.
2 – لماذا نعتمد أوقات الصلوات اليومية كما يحددها أولئك العلماء مسبقًا وبسنوات، وننكر ذلك في تحديد أوقات الأهلّة؟
3 – ألا ترون معي أنّ في عدم تحديد تلك الأوقات مسبقًا، كما أشرت، تعسيرًا على المسلمين جميعًا، بل وتفريقًا لهم أيضًا؟ فالتعسير أراه في أمرين، أولهما: في أن يبقى واحدهم في حيرة حتى بضع ساعات قبل بداية أو نهاية شهر الصيام. وقد يُنتِج هذا بعضَ الإزعاج أو النفور في نفسه. ولا ننسى وصية النبي ﷺ لعامليه إلى اليمن بقوله: «بشِّرا ولا تنفّرا، يسِّرا ولا تعسِّرا». وثانيهما: في البلدان التي تعتمد التقويم الهجري سيضطرون أحيانًا إلى تغيير تواريخ الأيام في الأشهر اللاحقة من السنة. أما التفريق فنراه سنويًا عندما يحدد كل بلدٍ، أو حتى مذهبٍ، أوقات الأهلة منفردًا، وكثيرًا ما نرى بلدين متجاورين يصوم أو يفطر مسلموهما بتأخير أو تقديم يومٍ أو يومين. ثم ألم نرَ الاختلاف الذي حصل في العام 2013 في تحديد يوم عيد الأضحى على الرغم من أن هلال شهره يولد قبل تسعة أيام من حلوله؟ وقد ينعكس هذا أيضًا على شعائر الحج.
4 – ولو سلّمنا جدلًا وقوعنا يومًا في خطأٍ في تحديد أيٍّ من تلك الأوقات، فهل تعتقدون أن الله تعالى سيعاقبنا؟ وأنتم القائلون: «إنما الأعمال بالنيات». وهو المسامح الكريم؟
فأين نحن اليوم من آيات القرآن الكريم التي تأمر وتوصي بالعلم، وأولاها: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ*} (العلق 1 – 5)؟
فلنثبت القول بالفعل بأنّ الإسلام لا يتناقض مع العلم، ولنعتمد الوسائل العلمية. ويكفيه تشويهًا لصورته ما يقوم به أولئك المجرمون المأجورون أو الجهلة المتحجرون.
[1] نشر هذا المقال على الفيس بوك 2/6/2015. وفي جريدة الرسالة – كندا العدد 414 تاريخ 27/4/2018.