عذرًا إخواني اللبنانيين
لم أكن أجرُؤ يومًا، على أن أسمح لومضةِ حلمٍ، أن تخطرَ في مخيلتي، فتريني صورةً واحدةً شبيهةً بما يجري اليوم على أرض لبنان، وأينما وُجِدَ لبنانيون، منذ السابع عشر من هذا الشهر، الذي أصبح يومًا مشرقًا في تاريخ لبنان الحديث. لقد كسر اللبنانيون نير الزعامات المذهبية والطائفية وخرجوا إلى الساحات، خارج الكنيسة والجامع، موحَّدين رافعين راية واحدة وهاتفين بكلماتٍ موحّدةٍ: «الشعب يريد إسقاط النظام». هذا النظام الطائفي البغيض، الذي فرضه علينا الأجنبي منذ أواسط القرن التاسع عشر، والذي تسبّبت نزوات ورغبات زعماء طوائفه بقتل وجرح وتهجير مئات الآلاف من اللبنانيين، وبتدمير النفوس قبل الحجارة، بالإضافة إلى المصابين بعاهات دائمة. هؤلاء «الزعماء» الذين وضعوا مصالحهم الخاصة فوق مصلحة وطنهم. واستولوا، باسم الدين والمذهب ومصلحة الطائفة، على عقول جماعات من المواطنين البسطاء الطيّبي القلوب، فأعادوهم إلى عصور العبودية. ثم عاثوا فسادًا وملأوا خزائنهم من أموال الشعب.
أخواتي وإخواني اللبنانيين الشرفاء، كلّما كنت أسمع أولئك البسطاء يهتفون: «بالروح بالدم نفديك يا زعيم»، كان صدى هذه الكلمات يُدمي فؤادي، قبل أن يُجرِّحَ أذنيَّ، فيتملّكني اليأس، ولسان حالي يقول: نحن لسنا شعبًا بل نحن «قطعان غنم». ولكن بعد ثورتكم هذه، مجتمعين نساء ورجالا، شيبًا وشبابًا، أطفالا وفتيانًا، على الفساد والمفسدين، وعلى ما أوصلونا إليه من الحرمان من أبسط حاجات المعيشة الإنسانية؛ هذه الثورة التي أقرَّ القاصي والداني بأنها مثال للرقيّ والحضارة، أيقنت أنّني كنت على خطأ. فأرجوكم أن تعذروني وتسامحوني.
وهذه القطرات من الدمع التي رأيناها تسيل من عين ذلك الجندي، خوفًا من أن يتلقى أمرًا بتفريق جموع إخوانه في الوطن وهم ينشدون: «كلنا للوطن»، كانت أبلغَ من مئات المقالات. فلا يا أيها البطل، لا تواري دمعتك هذه فما هي إلّا سِمة عمّا يجيش في نفسك من العزّة والكرامة وحبّ الوطن. فقد أصبحتُما، رمزًا من رموز الثورة الشريفة المباركة.
ثمَّ ألم يكنْ حلمًا مستحيلا هذا المشهد الرائع الذي رأيناه اليوم، حين تقاطرت أيادي شابات وشبان وأطفال لبنان مشكلين سلسلة بشرية، يزيّنها علم لبنان وحده، امتدت من صور جنوبًا إلى طرابلس شمالًا؟
فشكرًا لك يا إلهي إذ أحييتني إلى هذا اليوم لأرى حقيقةً ما كنت أحسبه لن يتحقق إلّا بمعجزة خارقة. وأعود أدعوك أن تجعلني أرى بلدي هذا ينعمُ بحكمٍ صالح ٍعادلٍ في دولةٍ مدنية ديمقراطيةٍ، يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات والعيش الكريم آمنين مطمئنّين، أحرارًا غير مرتهنين لأيٍّ كان. فأغادرُ، بعد ذلك، هذه الدنيا قرير العين مطمئنًا على مستقبل أبنائنا وأحفادنا.
اللهم إنك قريبٌ تجيبُ دعوة الداعي إذا دعاك. اللهم استجبْ.
[1] كتبت هذا المقال ونشرته على الفيس بوك في 27/10/2019 إثر اندلاع ثورة 17/10/2019 في لبنان.