الدولة أول المستفيدين من ارتفاع الأسعار
بالأمس تذكّرت كلامًا سمعته من أحد الثقات منذ ما يزيد عن الخمس عشرة سنة، قال:
كنّا شلّة من الأصدقاء في إحدى جلسات السّمر، وكان بيننا وزير المالية في حينه، فقال له أحدنا: «أنت وزير المال فمهمتك إدارة أموال الدولة». فانتفض «معاليه» قائلا: «أبدًا أنا مهمتي هي ملء الخزينة فقط.»
اطمئن يا «صاحب المعالي» فسياسة «ملء الخزينة فقط» لم تزل تطبّق، لا في وزارتك وحدها، بل في المرافق الحيوية العامة جميعها. أما كيف تصرف الأموال منها أو تهدر أو حتى تسلب فأمرٌ لا علاقة لأحد من المسؤولين به. فلم نرَ مرةً أحدهم يعمل على محاربة الفساد إلا بالكلام «الشعبوي». أمّا ارتفاع الأسعار فقد نسمع منهم كثيرًا من المبرّرات في أسبابه «الخارجة عن إرادتهم وسيطرتهم». والعمل على حماية لقمة العيش، كما يدّعون، فقد يتم بقرارات غير مدروسة العواقب، كزيادة الأجور عشوائيًا، أو التعويض على فئة من المواطنين متضررة «مباشرة»، كإعطاء السائقين بدلًا نقديًا لفترة محددة تعويضًا عن ارتفاع سعر صفيحة البنزين… هذا طبعًا مع التّمنين بأن هذه الأموال تتحملها خزينة الدولة.
ولكن هل قام أحد الخبراء في الاقتصاد يومًا بإجراء حساب ولو بسيطٍ لما تجنيه خزائن الدولة «المثقوبة» من جراء ارتفاع الأسعار؟
إن الضرائب والرسوم نسبيّة، في معظمها، كالضريبة على القيمة المضافة أو الرسوم العقارية أو رسم الانتقال أو رسم الطابع المالي. وبقدر ما يزداد المبلغ الخاضع للضريبة أو الرسم تزداد قيمة ما تستوفيه الدولة.
فبالنسبة للضريبة على القيمة المضافة، وكعينة، سأكتفي باحتساب حجم الزيادة في الأموال التي تدخل خزينة الدولة، من هذه الضريبة، من جراء ارتفاع سعر صفيحة البنزين وحدها.
يوم طبّق قانون الضريبة على القيمة المضافة (في العام 2002) كان سعر صفيحة البنزين بنحو 18.000 ل.ل. منها 1.636 ل. ل. قيمة تلك الضريبة، أما حاليًا فهو بنحو الأربعين ألف ل.ل. أي بزيادة 22.000 ل.ل. ما أنتج زيادة في قيمة هذه الضريبة تعادل 2.000 ل.ل. أي أن الزيادة بلغت 122%. ولا ننسى رسوم المحروقات التي تزيد عن ربع السعر الذي تحدده وزارة النفط للمستهلك.
أما حجم الزيادة في رسوم تسجيل العقارات والأملاك المبنية والانتقال والبلدية… فقد تضاعفت في السنوات الأخيرة بما لا يقل عن الأضعاف الثلاثة. وكعينة نقول: في العام 2005 كان المعدل الوسطي، لسعر المتر المربّع من البناء للشقق السكنية في بيروت، بنحو 1.200 دولار أميركي أما حاليًا فلا يقل عن 4.000 دولار. فلو أخذنا مثلًا شقة مساحتها 150 مترًا مربعًا، فسنرى أن رسم تسجيلها قد ارتفع من نحو 10.800 دولار في العام 2005، إلى 36.000 دولار حاليًا (على أساس أن نسبة الرسوم هي بحدود 6%)، هذا إذا وافق السعر، المدرج في عقد البيع، هوى «السيد» المسؤول في الدوائر العقارية، ولم يعمل على تعديله بما يسمح له أن يقدم «خدمته» لاستنباط المخرج الذي يجعل السعر «متوافقًا مع القانون». وقس على ذلك.
وعلى الرُّغم من هذه الزيادات وارتفاعها المضطرد فالدوائر المالية (التي تحصر مهمتها في ملء الخزينة فقط) تعمل على البحث في السجلات العتيقة، عملًا بالمثل القائل: «عندما يفلس أحدٌ ما يبحث في دفاتره القديمة.» فالوزارة منهمكة بنبش «القبور» في دوائر السجل التجاري للتنقيب عن «رفات» الشركات والمؤسسات التي «ماتت» أو مات أصحابها منذ سنوات، كي تفرض عليهم غراماتها المجحفة بحجة أنهم من المكلفين المكتومين أو المتخلفين عن القيام بواجباتهم الضريبية.
ألم يكن من الأجدى أن تعمل هذه الوزارة على استصدار قانونٍ لتسوية أوضاع هذه الشركات أسوة بغيرها من المخالفات، أو حتى الجرائم التي ارتكبت إبّان الأحداث الأليمة؟ فالذي قتل عشرات بل مئات الأبرياء أعفي عنه بالقانون!!! والأبنية التي شيدت مخالفة لقانون البناء سويت مخالفاتها أيضًا بالقانون!!! وأصحاب الأبنية الذين حولوا الملاجئ ومواقف السيارات، إلى محلات أو مستودعات تجارية، سُوّيت مخالفاتهم بالقانون أيضًا، فشردت بالتالي آلاف السيارات إلى الشوارع!!! ولا ننسى المباني التي شيدت على أملاك الآخرين، والتعديات على الأملاك البحرية والتي لم يزل يستثمرها أولئك المخالفون بحريّة تامّة يكفلها «قانون الزعامات السياسية.»
فيا معالي وزير المال، إنّ الكثير من القوانين والأنظمة التي تصدر منذ مدة، ليست بوجيزة، من أهم مساوئها تحييد وجهة المستثمرين الجدد إلى خارج لبنان بل أيضًا تهجير أو قتل كثيرٍ من الشركات والمؤسسات العاملة حاليًا في لبنان، فرأس المال لا يهمّه جمال الطبيعة والجوَّ الجميل، إنّما يهمّه أن يعمل في ضل قوانين وأنظمة عادلة وواضحة تخلوا من التعقيد والتعجيز والتعسير، وهذا بالتأكيد إلى جانب الاستقرار بجميع أوجهه بما فيه القوانين.
وختامًا وباسم الصامتين الصابرين من أبناء هذا البلد، أناشدكم أيها «المسؤولون» أن تعيدوا دراسة كلّ القوانين والأنظمة وتحديثها، ولا تنسوا الاستعانة بالخبراء، كلٌ في حقل اختصاصه، وأخصُّ منهم العاملين على «الأرض»، «فراعي الغنم أدرى من أرسطو في صنعته».
[1] نشر هذا المقال في العدد رقم 24720 – جريدة النهار تاريخ 3/5/2012.