لبنان ما بعد 17 تشرين
عصرَ اليوم السابع عشر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2019، نشرت وسائلُ الإعلام خبرًا مفاده أنّ الحكومة اللبنانية، إبَّان درسها موازنة العام 2020، قرّرت فرض ضريبة على المكالمات والرسائل النصّيّة عبر تطبيق «واتس أب» (WhatsApp). وبعد قليل أوضح وزير الاتصالات بأن هذه الضريبة ستشمل جميع التطبيقات المشابهة، وأنَّه قرارُ مجلس الوزراء مجتمعًا. فانتشر الخبر بسرعة البرق على وسائل التواصل الاجتماعي.
تأكد اللبنانيون أنَّ السلطة الحاكمة لن تتوانى عن فرضِ أيِّ ضريبة أو رسمٍ تراه يساهم في تخفيض العجزِ المالي الذي تسبب به الفساد والإهمال والهدر وسوءُ أداء الحكومات المتعاقبة، بأشخاصها الذين ورثوا السلطة من الحرب، التي سُمّيتْ «أهلية»، فأثرَوا ثراء فاحشًا، بينما تفشّى الفقرُ والبطالة في صفوف الشعب، كما تراجعت أو انعدمت الخدمات التي تديرها مؤسسات الدولة. إنَّهم يسرقوننا وعلينا السدادُ.
ومع بداية عتمة ذلك اليوم، نزل إلى الشارع، وبشكلٍ عفويٍّ، نحوٌ من عشرين شابًا، وعملوا على منع السير على جسر فؤاد شهاب في وسط بيروت. ظننتُ حينها أنَّ الأمر لا يعدو كونه حركة اعتراضية عابرة. ولكن عوضًا عن أن يتراجع هؤلاء الشبّان بعد بعض الوقت، رأينا عددهم يتزايد سريعًا، وأنَّ تحركاتٍ مشابهةً بدأت تنطلق في معظم شوارع بيروت، ثمّ تتمدّد إلى سائر المدن اللبنانية من الشمال إلى الجنوب ومن الساحل إلى الداخل. فشعر وزير الاتصالات بالذنب فأطلَّ علينا معلنًا أنَّ تلك الضريبة لن تطبق قبل بداية العام القادم وهي لم تزل فكرة. فازدادت أعداد المتظاهرين ونزلت الفتيات لتقفن بجانب الشبّان. ثم عاوَدَنا بإطلالة أخرى معلنًا التخلي عن فكرة تلك الضريبة.
ولكن فات الأوان. فما أن انتصف الليل حتى امتلأت معظم الساحات بالمتظاهرين، وقُطعت معظم الطرقات الرئيسية. وفي اليوم التالي أقفلت المدارس والجامعات والمصارف والدوائر الرسمية.
وفي صباح اليوم الثالث، غدا عددٌ من طلاب الجامعات، شابات وشبانا، بالنزول إلى ساحتي الشهداء ورياض الصلح، حاملين أدوات التنظيف، لرفع ما خلفته مواجهاتٌ جرَت بين المتظاهرين وقُوى الأمن في تينك الساحتين، في ساعة متأخرةٍ من الليلة السابقة، إثر أعمال شغبٍ تسبَّبَ بها مندسون مغرضون.
وتوالت الأيام وأعداد المتظاهرين تزداد يومًا بعد يوم. ورقيُّ وحضارةُ حَراكهم أعادا الصورة الحضارية للبنانيين، أمرٌ لفتَ أنظار العالم أجمع.
لقد بدأ الحلم يتحقق، شباب لبنان يريدون وطنًا عزيزًا تديره دولةٌ صالحةٌ عادلة، لا مزرعة. فقد ثاروا على الطبقة السياسية الفاسدة التي امتصّت دماءهم وحولت دولتهم إلى أفشل الدول، وأغرقتها بالديون حتى حافة الإفلاس.
فيا إخواني، حاملي مشعل الثورة، مهما رأيتم من هذه السلطة من تسويف ومماطلة على الرغم من مرور مائة يوم على انطلاق ثورتكم هذه، وعلى الرغم من هذه الحكومة الجديدة التي طلعوا بها علينا منذ أيام، فلا تيأسوا ولا تضعفوا ولا تهنوا، فأنتم الأعلَون. فإنّي أراهم يتخبطون خوفًا على مصيرهم، ومن حسابهم العسير يوم ينقلبوا عن «عروشهم». فابقَوا لهم بالمرصاد. وتأكدوا بأنَّكم إذا توقف حَراككم قبل أن تجنوا ثماره، فسيعودون أشرسَ وأعنف مما دأبوا عليه منذ ثلاثين عامًا. ولكن لا تنزلقوا إلى العنف.
أعزائي الثوار الشرفاء، كي تبلغوا غايتكم، فإنِّي أقترح عليكم أن يكون أول ما تسعَون إليه هو الانتخابات النيابية المبكرة، حتى تحت القانون الحالي بكل مساوئه، شرطَ ألَّا يتخلف أيٌّ منكم عن الاقتراع لتكون لكم الأكثرية المطلقة في مجلسٍ يعيد إنتاج سلطة تشريعية موثوقة، قادرة على المعالجة الملحّة لهذه الأزمة الاقتصادية والمالية التي وصلنا إليها، وتعملُ في الوقت عينه على تنظيم قضاء مستقلٍّ استقلالًا تامًّا، ليكون قادرًا على بسط العدالة بين المواطنين، ومراقبة ومحاسبة الفاسدين ومخالفي القوانين والأنظمة مهما علا شأنهم.
ثم ينكبُّ ذاك المجلس، على إعادة تنظيم وتحديث القوانين والأنظمة، بما يضمن العدالة والمساواة والعيش الكريم لجميع المواطنين، في ظلِّ دولةٍ مدنيّة أساسها المجتمع ككل لا الطائفة ولا المذهب.
وإنِّي أرى تحقيقَ ذلك في التالي:
1 – قانون انتخابٍ غيرُ طائفي، أساسه الدائرة الفردية، يقترع فيها المواطن في مكان سكنه، لا حيث سُجِّلَ أجدادُه أو آباؤه في العام 1932.
2 – قانون تنظيم الأحزاب الوطنية غير المرتبطة بأي جهة دينية أو مذهبية أو خارجية.
3 – إعادة تنظيم المدارس ومن دون إشراف الهيئات الدينية المباشر أو غير المباشر عليها، وتوحيد برامج التعليم.
4 – إلغاء النصوص والامتيازات الطائفية بجميع أشكالها. وتوحيد قوانين الأحوال الشخصية.
5 – تسهيل وتبسيط المعاملات الرسمية للمواطنين، وتعديل وتحديث القوانين، كي تكون نصوصُها واضحةً محدّدةً، من دون التباسٍ أو تعقيدٍ أو تعجيزٍ، وعدمُ ترك الاستنسابية للموظف في أيٍّ من الأمور. واعتمادُ الكفاءة والنزاهة، والشّخص المناسب في المكان المناسب. وتفعيل المراقبة المسبقة واللاحقة على أداء العاملين في جميع الدوائر.
6 – إقرار الضمان الصحي، طبابةً واستشفاءً، لجميع المواطنين واعتماد البطاقة الصحية كي لا يشعر المواطن بالذلِّ والمهانة في السعي للحصول على الموافقة المسبقة عند الحاجة إلى العلاج. وإقرار ضمان الشيخوخة أسوة بالدول التي تحترمُ كبارَها، احترام الابن البارِ لأبويه.
7 – تأمين وسائل العيش الكريم للمواطنين كافّة، وفي بيئة نظيفة وصحية.
8 – وعلى المستوى الاقتصادي، تعزيزُ وحمايةُ الصناعة والزراعة. واعتمادُ مبادئ: أنَّ الضرائب المرتفعة تزيد في الركود، وأنَّ الدولة تاجرٌ فاشلٌ، وأنَّ الحرية الاقتصادية لا تعني الفوضى والاستغلال، وأنَّ التنافسَ الشريفَ يؤمِّن للمواطن الأسعار الفُضلى والنوعيّة الجيدة، وأن لا استثماراتٍ جديدة من دون الاستقرارِ الأمنيّ والقانونيّ والضريبيّ وسهولةِ المعاملات؛ وأنَّ الرقابة النزيهة ضروريّةٌ جدًّا.
وأخيرًا، لا تنسوا محاكمةَ ومحاسبةَ من أوصلوا لبنان إلى أسفل قائمة، الدول، سواء اقتصاديًّا أم اجتماعيًّا.
[1] نشر هذا المقال في مجلة المستقبل الكندي – مونتريال – السنة الرابعة – عدد كانون الثاني 2020.