حلمٌ ليته يتحق
الأحلام جزء من حياة كل إنسان، ترافقه على مدى سني عمره مهما تعددت. وعلى الرغم من العقود السبعة التي انقضت من عمري فما زلت أحلم.
يقول حلمي الأخير:
إنّ الرؤساء والزعماء والمسؤولين كافةً قد قرروا إلغاء النظام الطائفي في لبنان، فأزالوا كل نصٍ يمتُّ إلى هذا النظام بصلة، ولم يبقَ، سواء في الدستور أم في سائر القوانين والأعراف والتقاليد والعادات، ما يشير إلى التركيبة الطائفية التي كانت تهيمن على جميع الأنظمة؛ وأحلّوا محلها نصوصًا جديدة أساسها الولاء إلى هذا الوطن، والكفاءة، والمقدرة، والنزاهة.
فأصبحنا نعيش في ظل نظام ديمقراطيّ فعلًا لا قولًا. والأحزاب السياسية حلت محلَ التجمعات المذهبية والطائفية والعرقية. أما الأحزاب «الشخصانية» أو تلك التي قد لا يتعدى عدد أفرادها عدد مؤسسيها، فقد انحلت تلقائيًا وأصبح عدد الأحزاب منطقيًا وكافيًا. والولاء الأعمى للزعماء قد ولّى عهده إلى غير رجعة.
الناس بأجمعهم يتمتعون، إلى جانب حريّة الرأي والمعتقد والقول، بالأمن والأمان، فالسلم الأهلي تمسكه الأجهزة الأمنية بيد قوية عادلة حكيمة. والأسلحة اختفت كلّيًّا من البلاد ولم يبقَ على أرض الوطن سوى سلاح المؤسسات الشرعية وحده. ولم نعد نسمع أصوات الرصاص أو القذائف تدوّي في مناسبة أو في غير مناسبة، أو كلّما ألقى الزعيم الفلانيّ خطبة، أو ظهر في مقابلة على إحدى شاشات التلفزة…
وانتخب الشعبُ مجلسَ نواب جديدًا استنادًا إلى قانونٍ جديدٍ وُضع على أساس الدائرة الفردية بحيث يدلي الناخب بصوته لمرشح واحد فقط، وفي المكان الذي يقيم فيه، لا في مكان قيد نفوسه، هذا المكان الذي قد يكون هجره منذ سنوات عديدة، ولم يعد يعرف عن احتياجاته إلا القليل.
واكتمل عقد المؤسسات الدستورية والعامّة، من قمّة الهرم إلى قاعدته، بأشخاصٍ مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والإخلاص للوطن، يملأ صدورَهم وعقولهم إيمانٌ بأنهم ليسوا هم السادة وسائرُ المواطنين عبيدًا أو خدامًا لديهم. فأزالوا ذلك الشعور بالعداء الذي كان يشعر به كلٌ منا، نحن المواطنين العاديين، تُجاه الدولة وقوانينها ومؤسساتها. كما لم يعد المواطنون يُصنَّفون درجاتٍ تبعًا لانتمائهم المذهبي، بل أصبح هذا التصنيف يتم تبعًا لكفاءة كل منهم.
ثم قام المشرِّعون والنواب بتعديل وتحديث جميع القوانين والأنظمة بما يناسب العصر الذي نعيش فيه، ولم يُبقوا على أي فجوة في النصوص يمكن لأي موظفٍ ضعيف النفس أن ينفذ منها ليحقّق لنفسه مكسبًا ماديًا أو معنويًا. كما صحّحوا الأخطاء التي قد تتسبّب بالتناقض فيما بين نصّ وآخر، يكون المكلّف البريء ضحيّة ما قد ينتج عنه. وأصبحت جميع النصوص والأنظمة والإجراءات القانونيّة واضحة جليّة لا لُبس فيها. فانعدم الفساد والرشوة وتحقّقت العدالة وأصبح المواطن يقوم بواجباته من دون أي تذمّر أو تأفّف أو شعور بالغبن أو الاستغلال، كما أصبحت حقوقه تصل إليه كاملةً من دون أي انتقاص أو مِنِّيّة. وجميع المواطنين، يرعى أوضاعَهم الصحيّةَ نظامٌ حديثٌ متطور يتناسب مع متطلبات العصر. أما نظام التعليم فقد أصبح من أفضل الأنظمة في العالم؛ فالتعليم إجباريٌ حتى نهاية المرحلة الثانوية، ما جعل كلمة «أميّة» تُلغى من بين المفردات اللغويّة في بلادي. ومناهج التعليم أصبحت واحدة موحدة في جميع المدارس والجامعات.
البرامج والخطط لحاجات البلاد المستقبلية التي تمتد على مدى خمسين أو مائة عام، ووسائل تطبيقها وتنفيذها، لا تقتصر فقط على قطاع التعليم، بل أصبحت تشمل جميع القطاعات، وخاصة المشاريع الإنشائية واستغلال الموارد الطبيعية والمحافظة على البيئة. وعاد لبنان حلوًا أخضرَ وربيعًا أنورَ.
القوانين والأنظمة تطبّق بحذافيرها. والغشُّ والاستغلال والجشع والاحتكار انقطع دابرهن جميعًا وإلى الأبد. وانعدم الهدر من صناديق مؤسّسات القطاع العام ولم تعد الخزينة تعاني من العجز الدائم. والكهرباء والماء وسائر خدمات المعيشة، توزع على المواطنين كافةً وعلى جميع المناطق بالتساوي ومن دون أي انقطاع أو تقنين. وانخفضت الضرائب فلم تعد ترهق كاهل المكلَّف. كما انخفضت كلفة المعيشة فأصبح دخلُ الفرد كافيًا كي يؤمّن له عيشة راضية.
العاملون في القطاع العام أصبحت رواتبهم متساوية مع رواتب القطاع الخاص، ولم تعد نفوسهم تتقبّل المذلة من الرشوة. كما لم يبقَ لديهم وقتٌ لحل الكلمات المتقاطعة في ساعات دوام العمل. وأصبح المواطن يشعر بالمتعة، لا بالمهانة، إذا ما انتقل إلى دائرة حكومية لإنهاء معاملة ما.
القضاء أصبح مستقلًّا، نصًّا وروحًا، والقضاة يطبقون القوانين بعيدًا عن تدخّل السياسيين.
وبعدُ، ألا يحق لي أن أتمنى لهذا الحلم أن يصبح حقيقة؟ أم أنّه مستحيلٌ التحقّق، لأنَّ الإخلاص والنزاهة والوطنية والكفاءة، قد اختفت من هذا البلد الحبيب؟
اللهم سبحانك لا تجعل أمنيتي هذه كقول الشاعر:
إذا تمنيتُ بِتُّ الليلَ مغتبطًا *** إنَّ المُنى رأسُ أموالِ المفاليس.
[1] نشر هذا المقال في جريدة النهار الأربعاء 29 تموز 2009 – السنة 76 – العدد 23769.