في ذكرى المرحوم والدي

منذ نيّفٍ وأربعة عقودٍ رحلتَ عنا يا والدي الحبيب وانتقلتَ إلى جوارِ ربِّكَ. لم أكن يومها طِفلًا فسنواتُ عمري كانت تضعني في أوائل سنِّ الكهولة، ولكنني كنت دومًا أشعرُ بأنّي طِفلٌ أمام بحر معرفتك.

هذه الثلاثة والأربعون عامًا لم تنسني منك شيئًا: وجهكَ الحسن، قوامكَ، وقارك، طلعتكَ البهية، هدوء طبعكَ، رجاحة عقلك، سعة معرفتك، حُلمك، طيبة نفسك، محبتك للناس. فلم أرَ منكَ يومًا علاماتِ الكُرهِ تُجاه أحدٍ منهم بمن فيهم من حاول أذيتك أو أذاكَ.

كم أرشدتني، وأنت معنا، إلى حلِّ العُقدِ التي واجهتني.

سنواتٌ عديدة لم يمرّ يومٌ عليّ منها لم أذكرك فيه. وكم مرّة كنت أبحث فيها عن معلومة ما، أعادني فيها عقلي الباطن إلى اللجوء إليك فأردّد في نفسي جملةً اعتدتها في حياتك قائلًا: «سأسأله». ولكن سرعان ما يُعيدني أسى فراقك إلى واقع الحياة وسننها، فأراني من دونك.

لم أنسَ يا والدي الحبيب ما علمتني من الحِكَم والأمثال والأقوال المأثورة. ولم أزل أشعر بالفخر وأنا أقول لمُحدّثِي: كان والدي يقول كيت وكيت، أو حفظتُ عنه كذا وكذا…

 

لستُ أدري يا أبتِ إذا كُنتَ تتطلعُ من عليائكَ على حال عيشتنا التي جعلني حُبّي لكَ أقول: هنيئًا لك بأن رحلتَ عن هذه الدنيا قبل أن ترى هذا التشرذم لا في الوطن العربي فقط، الذي كُنتَ من دُعاةِ وحدته، بل أيضًا في لبنانك «جبلكَ» الذي أحببتَ. هنيئًا لك لأنك لم تعِشْ لترى هذا الفساد الذي يُعشّشُ في نفوس الغالبية العُظمى ممن يُسمَّوْنَ: «رجالاته» أو «المسؤولون» عن زمامِ أموره.

لبنان الذي كان في أيامك «سويسرا الشرق» أعادوه إلى عصر الجاهلية الأولى، اقتتل أبناؤه فيما بينهم خمسَ عشرة سنة، زُهِقت فيها من الأرواح ما يزيد عن المائة والخمسين ألفًا ما عدا من عوّقته جروحه وأقعدته عاجزًا في إحدى الزوايا، ولا تسألْ عن التهجير القسري سواء داخليًا أم إلى أقصى حدود المعمورة. ولم نزل، بعد ما يزيد عن العقود الثلاثة، نعاني من آثار تلك الحرب القذرة.

فلسطينُ دخلت في عالم النسيان. العراق أصبح ثلاثًا بعد أن دنّس الاحتلال الأجنبي أرضه. وقُتِل وهُجِّر الملايينُ من أبنائه، وما زال الموت يحصد فيه المئات يوميًا. مهد الحضارةِ دُمرت معالمه وسرقت آثاره ونُهبتْ موارده.

بلاد الشام، أرضُ الحضارات، منذ ما يزيد عن العامين ونصفِ العام ونيرانُ التقاتل، بين أبنائها، تلتهم الأرواح منهم من دون تفريق بين طفلٍ أو امرأة أو شابٍّ أو عجوز. مئات الآلاف حتى اليوم أمواتٌ وجرحى، الملايين تاهوا نازحين أو لاجئين في أصقاع الأرض. دمارٌ وخرابٌ ونهبٌ وحرقٌ والآتي أعظم.

واليمن وتونس وليبيا ومصر لا يعلم مصيرها إلا الله عزّ وجل.

دينُ الإسلام السمحُ تُذبحُ الناس باسمه ذبح النعاج، ولكن اطمئنّ يا والدي فما زالوا يقولون: «الله أكبر» … و«لا إكراه في الدين» أصبحت: «من ليس من رأيي واجبي أن أذبحه من الوريد إلى الوريد». أعوذ بالله… أعوذ بالله… أعوذ بالله…

 

وأخيرًا يا أبي الحبيب: نمْ قرير العين فالحمد لله لم يشُذّ عن تعاليمك أيٌّ من ذُريتك، ولم تُلطّخْ يدُ أيِّ منا سواء بالدمِ أم بالفساد.

 

رحمة الله عليك في مثواك الأخير.

 

[1] كتبت هذا المقال في 10/11/2013، في الذكرى الثالثة والأربعين لوفاته.