الحراثةُ بثورٍ واحد

الحراثةُ بثورٍ واحد

حتّى أواخر النصف الأوّل من القرن العشرين، كان الكثيرون من أبناء جبل لبنان، يعتمدون على نتاجِ أراضيهم الزراعيّة لتأمين سبل عيشتهم. وكان كلٌّ منهم يقوم، هو وأفراد عائلته، بالاعتناء بأرضه من غرسٍ، وزرعٍ وجنيٍ وحصاد. وعلى الرُّغم من ذلك فقد كان بعضُ تلك القرى يخلو ممّن يمتهن مهنة الحراثة، ولِذا كان أهلها، في المواسم، يكترون من القرى المجاورة، من يؤدّي لهم هذه المهمّة. وكانت وسيلة الحرث الوحيدة المحراث الرومانيّ يجرّه فدَّانٌ[1] تُقرن رقبتاهما بنير خشبيّ يُربط في وسطِه رأسُ خشبة المحراث، وطولها بنحو المترين. وكان الفلّاح يستعين بالمسّاس، وهو قضيبٌ طويلٌ ثخينٌ عند المقبضِ دقيقُ الرأس، ليوجّه به الثورين، بوخزِ الفخذِ بلطفٍ مرفقٍ بعبارات متوارَثة وحسب الحاجة، مثل (تَرِّحْ- ليتجه إلى الداخل، وبَرّي – ليتجه إلى الخارج…).

ويُروى أنّ أحد المالكين، ويدعى سالمًا، تواعد ويوسف، أحد الفلّاحين الممتهنين الحراثة، على أن يقوم بحراثة قطعة أرض اعتاد سالمٌ أن يزرعها قمحًا. وكان سالمٌ هذا يتميز بالصدق وطيبة قلبٍ قد تصل أحيانًا إلى درجة البساطة. وفي اليوم المحدّد غدا سالمٌ إلى الموقع لملاقاة يوسف. ولما أطلَّ هذا الأخير، فوجئ سالمٌ برؤيته حاملًا النير على كتفه، والمسّاس بيدٍ، ويجرُّ ثورًا بالأخرى.

فسأله متعجبًا: ماذا في الأمر؟ أين الثور الآخر؟ وهل يمكنك أن تحرث بثورٍ واحدٍ؟

أجابه يوسف: بالتأكيد لا، فالحراثة بثورٍ واحدٍ شِبهُ مستحيلةٍ. ولكن، كما تعلم فإنّي لا أملك سوى ثورين فقط. وقد فوجئت هذا الصباح برؤية أحدهما مفترشًا الأرض من المرض. ولأنّي ليس من طبعي أن أخلف وعدًا قطعته، فقد جئتك على ما رأيتَ.

فقال سالم: ولكن، ما العمل، فزمن الزرع يحتّم علينا أن تُحرث الأرض اليوم قبل الغد، وإلا خسرت الموسم؟

قال يوسف: وهذا ما دعاني إلى المجيء، وليس في اليد حيلة. ولكن، قد نستطيع إنجاز المهمّة إن ساعدتني.

قال سالم: وكيف أساعدك؟

قال يوسف: يمكن ذلك إن حللت أنت محل الثور الآخر.

قال سالم: ماذا؟ لم أفهم؟ كيف أحلُّ أنا محلّ الثور؟

قال يوسف: الأمر بسيطٌ جدًّا، أضعُ أحد جانبي النّير على رقبة الثور والجانب الآخر على كتفيك، ويكون دورك موازنة النير فقط، ليكون عناء جرِّ المحراث على الثور وحده.

قال سالم: أمعقولٌ ما تقول؟ أتريد أن تساويَني بالثور وتقرنني بالنير معه؟ لا لا لن أقبل هذا، وعليك أن تجد حلّا آخر.

قال يوسف: لو كنتَ، أنت يا شيخ سالم، تُتقنُ الحراثة لكنتُ حللتُ أنا محلّه فتتولى أنت الباقي. ولا تنسَ أن أوان البَذْرِ، كما سبق وذكرتَ، يوجب إنهاء الحراثة من دون تأخير.

فصمت سالمٌ وراح يفكّر في الأمر ويجيله في خاطره. فإن لم تتم عمليّة الحراثة اليوم فلا يعلم متى سيشفى الثور المريض.  كما أن هناك صعوبةً في إمكانيّة اكتراء فلّاح آخر في ما تبقى من الأيّام التي تصلح فيها الحراثة قبل البذر، ولا سيّما أنه سأل بضعة فلّاحين قبل يوسف وكلُّهم اعتذروا لارتباطات سابقة. وبعد بضع دقائق من التفكير، رأى أنه مُكرهٌ على قبول اقتراح يوسف، وإلّا ضاع عليه الموسم.

وفي أثناء عودة يوسف، التقاه أحد أبناء القرية فدار بينهما حديثٌ فهم منه هذا الأخير، كيف تمّت حراثة أرض سالم.

وفي اليوم التالي كان الخبر قد بلغ أسماع جميع أبناء القرية. ولمّا ظهر سالمٌ في ساحتها، تجمّع حوله بعضٌ منهم للاستفسار عن صحّة هذا الخبر. فلم ينفِه، بل أجاب قائلًا: هو صحيح أنّه وضع النير على رقبتي «وكدنني مع فردة الفدَّان»[2] ولكنّه احترمني فكان يقول لي: «ترِّح الشيخ وبرّي الشيخ».

فكم يقابل الإنسان في حياته من أمثال سالمٍ هذا ممّن يرضَون بالعبوديّة المقنّعة بألفاظٍ زائفة؟

 

[1]  الفَداَّنُ الثوران اللذان يقرنان فيحرث عليهما، والجمع فدادين. (لسان العرب).

[2]  قرنني. مع الثور الآخر.