تفتيت الشرق وتهجير مسيحيّيه

تفتيت الشرق وتهجير مسيحيّيه

منذ أن ضَعُفت الدولة العثمانية انبرت إنكلترا لمساندتها، ممّا أطال بعمر تلك الدولة نحو القرن. بالتأكيد، لم يكن موقف إنكلترا هذا محبةً بسلاطين بني عثمان، بل كان ناتجًا عما يلي:

 

أولًا: لم تعدْ تلك السلطنة تشكّل أيَّ خطرٍ على اوروبا، بعدما اصبحت ذلك «الرجل المريض».

ثانيًا: كانت إنكلترا تتخوّف من ان تنقضَّ الرّوسيا القيصرية على الآستانة «القسطنطينية»، وما يليها فتحقّق حلمها بالوصول إلى المياه الدافئة، «البحر الأبيض المتوسط»، فتصبح الطريق الى الهند، أهم اراضي الامبراطورية الانكليزية، تحت سيطرة الروسيا. ولهذا تضامنت انكلترا (وفرنسا) مع السلطنة في حرب القرم في العام 1854.

ثالثًا: الصراع الفرنسي الإنكليزي، لا في اوروبا فقط بل أينما يكون لأيٍّ منهما مصلحة أو موطئ قدم، وخصوصا، حيث يكمن الخطر على طريق الهند. وهذا ما جعل الانكليز يردّون نابوليون بونابارت عن أسوار عكا، ثم يطردون عساكره من مصر في أول القرن التاسع عشر.

رابعًا: عدم اتفاق دول أوروبا الاستعمارية، فيما بينهنّ، على تقاسم تركة «الرجل المريض». وهذا نتيجة حتمية لتلك المخاوف والصراعات فيما بينهنَّ. وخصوصًا أن أهمَّ أملاك هذا «المريض»، تلك البقعة من الأرض التي كانت تعرف جغرافيًا بسوريا أو سوريا الطبيعية، (مطلب أنطون سعادة)، والتي كانت تمتدُّ على طول الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من خليج السويس إلى خليج إسكندرون شمالًا وإلى خليج البصرة شرقًا، ومنه بمحاذاة بلاد فارس حتى أرمينيا، التي كانت تفصلها عن البحر الأسود شمالّا. وقد كانت سوريا هذه، ولم تزل، تعتبر بحقٍّ أهمَّ بقعة على الكرة الأرضية لمركزها الاستراتيجي كمفتاح قارّات العالم القديم الثلاث، وبما في سوريا هذه وما حولها من ثروات وخيرات طبيعية. وبالإضافة إلى موقعها هذا يتوسطها قلعة طبيعية، من سيطر عليها يصبح بإمكانه السيطرة على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والداخل السوري بأكمله. هذه القلعة هي لبنان، بسلسلتيه الغربية والشرقية، الذي كان يمتد، جغرافيًا، من عكا جنوبًا إلى موازاة جزيرة أرواد شمالًا.

كلُّ هذا جعل أوّل أهداف دول الاستعمار، وعلى رأسها إنكلترا، عدمُ السماح بقيام أيّ دولة قوية يمكن أن تحلَّ محل الدولة العثمانية، وخصوصًا في سوريا «الطبيعية». وأهم مثالٍ على هذا، وقوف الدول الأوروبية الكبرى بوجه محمد علي باشا، والي مصر، بعد احتلاله سوريا[2]، وبلوغه كوتاهيا ومحاولته المتابعة إلى الآستانة، حيث أيقنت تلك الدول، بأنّ هذا الأخير أصبح على وشك إنشاء دولة فتية قوية تحلَّ محل العثمانيين، فتقاطرت، تلك الدول، لمساعدة العثمانيين على طرد محمد علي من سوريا وإعادة تحجيمه واليًا على مصر والسودان. بينما امتنعت فرنسا، لا عن المشاركة في ذلك فقط، بل أيضًا عن إمداد حليفها محمد علي، سواء بالرجال أم بالمال…

بعد هذا بدأ عمل الاستعماريين على تنفيذ خطّة تقضي بتفتيت سوريا، فكانت خطوتهم الأولى في أهمِّ أبراج تلك القلعة الطبيعية، التي قد تفشِّلُ خطتهم تلك، عنيت جبل لبنان، مبتدئين بغزوه بالإرساليات التي ظاهرُها تبشيريٌّ وتعليميٌّ وتثقيفيٌّ، وباطنها زرعُ بذور الفرقة والحقد فيما بين أبناء الوطن الواحد. ثم استغلال ما أنتجته سياسة «فرِّقْ تسُدْ» التي اتبعها الأميرُ بشيرٌ الشهابي الثاني عملًا بنصيحة «حليفه» بل «عرّابه» محمد علي باشا، الذي كان يرى أمامه عقبتين تحولان دون تحقيق حلمه باحتلال سوريا، وهما جبل نابلس وجبل لبنان. فكان له القضاء على بني طوقان، الموالين للعثمانيين، في جبل نابلس في معركة سينور بقوة عسكرية أهم مقاتليها فرقة من دروز لبنان، أرسلها الأمير بشير بناء على أمر محمد علي، وعلى رأسها الشيخ سعيد جنبلاط، حليف الشهابي. وبما أن الشهابي كان يرى في حليفه هذا ومن معه من المقاتلين الدروز، أهم مانعٍ له في حكمه المطلق للجبل، كان محمد علي يريد أيضًا الخلاص منهم نظرًا لولائهم للعثمانيين. ولذا لعب الشهابي على الوتر القبلي بين عشائر الدروز ومن ثم على الوتر الطائفي بين الموارنة والدروز بعدما تمكّن من إضعاف قوة هؤلاء الآخرين.

ولمّا تحقّق لمحمد علي إزالة تينك العقبتين، عنيت جبلي نابلس ولبنان، بعث ابنه إبرهيم باشا فاحتلّ سوريا في العام 1832 من دون أي مقاومة تذكر وفي نحو تسعة أشهر.

ولما ثار دروز جبل حوران على المصريين في العامين 1837 – 1838، واستعصى على إبرهيم باشا القضاء على تلك الثورة، طلب من الأمير بشير أن يمدّه بما يزيد عن الألف مقاتل من موارنة جبل لبنان لمقاتلة إخوانهم، اللبنانييِّ الأصل، دروز جبل حوران.

كل هذه الأمور أوجدت شرخًا كبيرًا بين الدروز والموارنة الذين عاشوا سابقًا مئات السنين بوئام تامٍ بينهم. وبعد طرد المصريين من سوريا في العام 1840 راح الفرنسيّون والإنكليز يستغلون هذا الشرخ ويعمقونه كلٌّ لمصلحته الخاصّة، ولا ننزه العثمانيين من ذلك أيضًا. فكانت الحرب، التي سميت أهلية، فيما بين الدروز والموارنة، بمعارك قتالية متقطعة بدءًا من العام 1842 حتى العام 1860. ويرى بعضهم أن تكون فرنسا قد أثارت معركة العام 1860 ردًا على قرار السلطان العثماني بوقف العمل في حفر قناة السويس، هذا القرار الذي اتخذ بناء على رغبة الإنكليز في الردِّ على رفض الفرنسيين طلبهم المشاركة في ملكية شركة القناة.

ثم جاءت الحرب العالمية الأولى وجاءتنا معها اتفاقية «سايكس – بيكو «ووعد بلفور. وعندما احتلَّت فرنسا حصتها من تلك الاتفاقية قسمتها إلى ستة أقسام: دولة لبنان الكبير ودولة جبل الدروز ودولة جنوب سوريا (دمشق) ودولة شمالها (حلب) ودولة العلويين وسنجق أو لواء إسكندرون. ولكن الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية أجبرت فرنسا على إعادة توحيد الأراضي السورية كما هي اليوم، ولكنها وهبت إسكندرون إلى تركيا أتاتورك.

أما الإنكليز فقد أنشأوا في حصتهم دولتين: شرقي الأردن ونصبوا عليها أميرًا عبد الله بن الحسين، شريف مكة. والعراق، ونصبوا عليه ملكًا، فيصل ابن الشريف حسين المذكور، بينما أبقوا فلسطين تحت حكمهم المباشر حتى انسحابهم في العام 1948 وإعلان دولة إسرائيل، باعتراف ومناصرة إنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي. ولا بد من الإشارة إلى أن رؤوس الوكالة اليهودية، العلمانيين، كانوا قد تقبلوا فكرة إنشاء دولتهم في إفريقيا، ولكنّ إنكلترا أوعزت إليهم بالمطالبة بفلسطين أرض الميعاد، فتكون بالتالي عاملًا على عدم استقرار الدويلات السورية (الطبيعية).

وبعد أن انكفأت دول الاستعمار القديم، حلّت الولايات المتحدة الأميركية محلّها بمتابعة سياسة التفتيت تلك، فكان مشروع دالاس، بعنوان تعبئة الفراغ في الشرق الأوسط، ثم حلف بغداد….

ويوم قطع الملك فيصل بن سعود النفط عن أميركا وأوروبا إثر حرب العام 1973، بين مصر وسوريا من جهة والعدو الصهيوني من جهة أخرى، وتبعته سائر الدول العربية النفطية، قررت واشنطن، عاصمة العالم الجديد، إعادة رسم خريطة الأراضي السورية (الطبيعية)، وسارت لندن في ركابها وصمتت موسكو.

وكما بدأ سيناريو القرن التاسع عشر من جبل لبنان ابتدأ السناريو الجديد في العام 1975 من لبنان أيضًا، بوابة الداخل السوري «الطبيعي» ثم العربي. ثم زُحلِقَ صدام حسين على «قشرة موز» أبريل غلاسبي، في العام 1990 فاحتلّ الكويت، كي تجيّش الولايات المتحدة دول العالمِ أجمع، بما فيها الدول العربية، وبحجّة تحرير الكويت، لتدمير وتفتيت العراق، الذي قال عنه يومًا كميل شمعون، رئيس الجمهورية اللبنانية سابقًا، «ما دام العراق بخير فالدول العربية جميعها بخير.»

ثم ابتدعت الولايات المتحدة «الجهاد المقدس» بوجه الاتحاد السوفييتي إثر احتلاله لأفغانستان، فكان تنظيم القاعدة (أسامة بن لادن) وطالبان، فخرج مارد التعصّب الديني الجاهل من القمقم، الذي استغلّته أيادي المخابرات الغربية والصهيونية لإذكاء نار الفرقة والحقد في نفوس أولئك الجهلة لإشعال التقاتل السني – الشيعي، وتحويل ثورات «الربيع العربي» إلى اقتتالِ الإخوة في البلد الواحد، ومن ثمَّ إثارة النزعة الإجرامية في نفوس من تفرّع عن تنظيم القاعدة، من النُّصرة وداعش، لقتل كلّ من لا يقبل بشريعتهم، التي نسبوها زورًا وبهتانًا إلى الإسلام، مسيحيًّا كان أم مسلمًا، شيعيًّا أم سنيًّا.

أما البوابة الرئيسية للتدخل الأجنبي في بلاد الشرق الأوسط عامة وفي سوريا (الطبيعية) خاصة، فقد فتحتها على مصراعيها تلك الامتيازات للأجانب ولغير المسلمين التي منحها العثمانيون، من قبيل التسامح الديني حسب رأيهم واغترارًا بقوتهم، أمام الدول الأوروبية بدءًا من القرن السادس عشر، بإعطاء كلٍّ من تلك الدول حقَّ حماية رعاياها المقيمين على أراضي السلطنة، ومن كان على دينها من مواطني السلطنة. فكانت هذه الامتيازات وبالًا على سلطنتهم وعلى الجماعات التي شملتها تلك الامتيازات على حدٍّ سواء. إذ استغل الأجانب هذه الامتيازات للتدخل في شؤون السلطنة الداخلية بما يخدم مآربهم ومصالحهم الخاصة. أما المواطنون المشمولون بتلك الحماية فقد رسخ في نفوس غالبيتهم، الجهلة، بأن كلًّا منهم ينتمي إلى قومية الدولة التي «تحميه»، مما أدى إلى شعورهم بالغربة، في بلاد هم أصحابها منذ ما قبل مجيء العثمانيين، ومن ثم بالكره والحقد والعداوة لا تُجاه العثمانيين فقط، بل تجاه أبناء جلدتهم من المسلمين أيضًا. وهذا ما استغلّه الإنكليز والفرنسيّون للسعي إلى السيطرة على الأجزاء المهمّة من أراضي السلطنة؛ فكانت من نتائجه أحداث القرن التاسع عشر في جبال لبنان باقتتال مواطنيه الموارنة والدروز، الذين عاشوا قبلها مئات السنين بوئامٍ وإخاء تامين، كما أسلفنا، وهجرة الكثير منهم. كما فيما بعد، أدّى إلى تهجير نحو سبعة ملايين من مسيحيي الأناضول والعديد من الأكراد، وإلى «مذبحة» الأرمن.

 

وفي الختام أقول لإخواني في البلاد العربية جمعاء: لا يغرَّنَّ أحدًا منكم قولُ أجنبيٍّ بأنّه آتٍ لحماية، من سموّهم زورًا «أقليّات»، من ظلم أبناء جلدتهم، وإلّا أوقعوكم في حفرتها. وما بدعة «الأقليات» هذه إلّا من صنع ذاك الأجنبيّ لتكون كمسمار جحا كي يتدخّل بين الأخ وأخيه ساعة يشاء. وليس لنا ما يحصِّننا إلّا أن نكون صفًا واحدًا بوجه من يريد بنا السوء.

 

[1] نشر هذا المقال، مختصرا، في جريدة الحياة عدد الثلاثاء، 9 سبتمبر/ أيلول 2014.

[2] في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.