أهكذا تكون حرية الرأي والتعبير؟
يوم الخميس الفائت (22/12/2011) أقرّت الجمعية الوطنية الفرنسية (مجلس النواب)، بغالبية كبيرة، اقتراح قانون يقضي بتجريم من أنكر أيّة «إبادة» يعترف بها القانون الفرنسي، ومنها ما أسمته: «إبادة الأرمن» إبّان الحرب العالمية الأولى. وهناك «إبادة» أخرى يعترف بها القانون المذكور ويجرّم كلّ من شكّك فيها، هي «محرقة اليهود»، ففي العام 1998 حكمت محكمة فرنسية على المفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي بتهمة التشكيك في تلك «المحرقة» في كتابه «الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل»، لأنّه شكك في الأرقام الشائعة عن «إبادة» يهود أوروبا في غرف الغاز على أيدي النازيين. وقد كان يومها في الخامسة والثمانين من سني العمر.
لست هنا في معرض إثبات أو نفي أيّ من الأحداث التي حصلت في التاريخ الحديث أو المعاصر، فهذا أمر أتركه للخبراء والباحثين الموضوعيين المتخصّصين. ولكن ما يعنيني هو خيبة الأمل التي خلّفها في نفسي إقرارُ قانونٍ كهذا في بلد يعتبر نفسه حامي الحرية بكل معانيها، ويتغنى دومًا بشعار يرفعه أمام العالم بأسره منذ نجاح ثورة شعبه الشهيرة في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، ألا وهو: «حرية – إخاء – مساواة».
وكإنسانٍ عاديٍ دفعتني سنوات العمر، التي تخطت السبعة عقود، إلى أن أطرح على السلطات في فرنسا بخاصّة، وفي سائر أنحاء «العالم المتحضر» عامّة، الأسئلة التالية:
أولا: هل يضمن الدستور الفرنسي حرّية الفكر والقول والتعبير والمعتقد أم لا؟ فإن كان الجواب بالإيجاب، فيصبح سؤالي: ألا يتعارض ذاك القانون مع نصوص هذا الدستور فيسلب الباحث المفكّر حقّه في هذه الحرية؟ أمّا إن كان الجواب سلبًا فهي الطامة الكبرى!!؟
ثانيًا: هل تعتبر السلطات الفرنسية، حسب معاييرها، ما حصل فقط للأرمن في الحرب العالمية الأولى، ولليهود في الحرب العالمية الثانية، بمثابة عمليتي إبادة من دون سواهما؟
ثالثًا: ألم تقم السلطات الفرنسية عينها، إبّان استعمارها للجزائر، بقتل ما يزيد عن مليون إنسانٍ لمجرد أنهم كانوا يطالبون بالاستقلال والحريّة، أحد ثالوث الشعار الفرنسي؟
رابعًا: لماذا لا تتجرأ أيّ من حكومات دول العالم «المتمدن» ولو بالإشارة، موحيةً أن ما فعلته الولايات المتحدة الأميركية، هو أيضًا «إبادة» حينما قتلت في دقائق معدودات مئات الآلاف من اليابانيين يوم ألقت قنبلتين ذريّتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي إبّان الحرب العالمية الثانية؟
خامسًا: ماذا يعتبر، في معايير ومقاييس دول العالم «الحر»، ما قامت وتقوم به السلطات «الإسرائيلية» (الطفل المدلل للولايات المتحدة الأميركية) منذ العام 1948 وحتى أيامنا هذه، من تقتيل وتعذيب وتشريد لأبناء فلسطين لمجرد أنهم يطالبون بالاستقلال والحرية؟
سادسًا: والحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية، في العام 2003، على العراق بحجّة أنّه يمتلك أسلحة دمار شامل، تبين أنها كانت مجرّد كذبة لا أساس لها من الصحة، فكان أن خلّفت هذه الحرب مئات آلاف القتلى، معظمهم من الأطفال والنساء، كما أدّت إلى تهجير الملايين من ديارهم وتدمير المنازل والمعالم الثقافية والتاريخية… ومن ثم تفتيت وشرذمة شعب ليصبح بضعة شعوب تتناصب العداء فيما بينها. فأين تُصنِّفُ من تطلق على نفسها صفة «دول العالم الديمقراطي الحر» هذه الحرب؟
والتاريخ مليء بمجازر حصلت في الغرب كما في الشرق. فلماذا نقوم اليوم بنكء الجراح، وبالتالي إثارة العصبيّات والنعرات والبغضاء بين الشعوب، ما ينتج حروبًا لا يعلم حصيلتها إلا الله؟ هذا عوضًا عن أن نعمل على دمل تلك الجروح وأخذ العبر، وننسى الضغينة ونقول: إنّ ما فعله الآباء لا يجوز أن يحمل وزره الأبناء، وليس باستطاعة أي من بني البشر أن يعيد الزمن إلى الخلف فما مضى قد مضى.
ولا بد لي من أن أذكّر السيد ساكوزي[2] وغيره من المسؤولين بأمرين: أولهما، ذلك البيان الذي أصدره الفاتيكان، تحت ضغط الولايات المتحدة الأميركية والصهيونية العالمية، في أواخر القرن الماضي وبرأ فيه يهود العصر الحاضر من جريمة أجدادهم في صلب المسيح (عليه الصلاة والسلام). وثانيهما، يوم زار السيد ساكوزي الجزائر، وكان يومها، لم يزل مرشحًا لرئاسة الجمهورية الفرنسية، إذ سأله أحدهم: هل في نيّة فرنسا أن تُصدر بيان اعتذارٍ عمّا فعلته في الجزائر أيام استعمارها لها؟ فكان جواب السيد ساركوزي بما معناه: لماذا تريدون أن يتحمل الأبناء أخطاء آبائهم؟
ويا سيد ساركوزي عندما يقوم جهابذة السينما والأدب والرواية بنعت السيد المسيح وأمّه العذراء (عليهما السلام) بصفات ليس أقلّها أنّهما كانا «فاجرين متهتكين…» تقولون بأنّ هذا يندرج تحت عنوان حريّة الرأي والقول والتعبير والمعتقد. أما إذا حاول باحث إعادة التمحيص في بعض أحداث التاريخ فيصبح مجرمًا يحاكم ويغرّم. فأي منطقٍ هذا الذي تعتمدونه في صوغ وإقرار القوانين والشرائع؟ أهو مما يسمى: «شتاء وصيف فوق سطحٍ واحدٍ»، أم أنّها شريعة الغاب المقنَّعة؟»
[1] كتبتُ هذا المقال في 24/12/2011، وتريثت في نشره بانتظار قرار مجلس الشيوخ الفرنسي. ثم عدلت عن نشره في حينه بعد أن أسقطه هذا المجلس.
[2] رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك.