«صيبة العين»
في الموروث الشعبي، ويوم لم يكن التعليم قد عمَّ معظم قرى وبلدات لبنان، كان ينتشر عند العامّة اعتقادٌ بأنّ هناك أشخاصًا إذا ما نظروا إلى خيرٍ لدى الآخرين تسبّبوا لهم بالأذى، بما يسمُّونه «صيبة العين». وهذا ما قد يكون ناتجًا عن حسدٍ عظيمٍ يكنُّونَه في أنفسهم تُجاه من لا يحبّونه، أو من يملك شيئًا لا يملكون هم مثله، أو هو أفضل مما يملكون. والحسد مذكورٌ في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (الفلق 5). ولذا كنتَ ترى الناس يتجنّبون أولئك «الحُسَّاد»، ويطلقون عليهم الأوصاف كقولهم: «هذا يصيبُ بالعين» أو «عينه صيَّابة»، أو يَسِمُونَهم بعلامات فارقة، مثل: «عيونُه زُرق وأسنانه فُرق- بِصِيِب بِالعَين». وكانوا يتعوذون منهم بعباراتٍ مثل: «اسم الله، ويخزي العين»، وبأشياء يعلّقونها على أبواب المنازل، مثل «حِذوة» حصان أو كفٍّ مبسوط مصنوعٍ من النحاس وفي وسطه عينٌ زرقاء، أو خرزةٍ زرقاء… كما كانوا يعلّقون في أمكنة ملفتة من ثياب الأطفال الحديثي الولادة، مثل ذلك الكفِّ أو تلك الخرزة، وغالبًا ما يكونان مُصاغَين من الذهب أو الفضة.
كذلك كانوا يروُون عنهم الرِّوايات المختلفة، أذكر بعضًا مما لم يزل عالقًا في ذاكرتي ممّا سمعته من كبار السنِّ، أو عنهم، يوم كنت في ريعان الشباب؛ قال أحدهم: في أحد أيّام الصيف ذهبنا أنا ورهط من أترابي، لزيارة أحد وجهاء منطقتنا. فاستقبلنا أحد العاملين في المنزل ودعانا للانتظار ريثما يعود صاحب الدار من أداء زيارة واجبة في القرية. فجلسنا في باحة الدار التي كانت تظلِّلُها أوراق «عريشة» عظيمة متمددة على «سقالة» حديدية تغطي تلك الباحة بالكامل. وكانت تتدلّى منها عناقيد عنب لم يسبق لي أن رأيت بحجمها أو نوعها. فرحنا جميعا نتأملها إلّا أحدنا، لاحظنا أنّه لم يرفع نظره لرؤية ذلك المنظر الرائع. فقال له آخر: ما بالك يا فلان؟ ولمَ لا تشاركنا الرؤية؟
فأجابه قائلا: أخاف أن أتسبّب بأذية «العريشة» لأنّي «أُصيب بالعين».
فقلنا: أمعقولٌ ما تقوله؟
قال: اختاروا أيّ عنقودٍ ثم أرشدوني إليه لترَوا ماذا سيحصل.
وبالفعل، فما أن نظر لبضع ثوانٍ إلى العنقود الذي أشرنا إليه، حتّى رأيناه يسقط أرضًا وحبّاته تتناثر أمامنا.
كما أخبرني أحد الأصدقاء قائلا: في أوائل خمسينيّات القرن الماضي، وكنت يومها لم أزل فتًى، قال لي عمّي، وكان من الأثرياء: يا ابن أخي، لقد اشتريت سيارة جديدة وأرغب في أن ترافقني لإحضارها. فباركت له فيها، ورحّبت مسرورًا، إذ سأكون أوّلَ من جلس على مقاعدها. ولمّا وصلنا إلى صالة البيع أشار عمّي إلى سيارةٍ حمراء اللون متوقفةٍ في الباحة الخارجيّة، وقال: هذه هي، فما رأيك؟
قلت: إنها رائعة يا عمّاه، تقولها من الأحلام.
وبعدما تسلّم مفاتيحها دار عمّي حولها ثم أخرج من جيبه مسمارًا وأحدث خدشًا طويلا على جانبها. فتملكني العجب وقلت بحسرة: لماذا فعلت هذا يا عمّاه؟
فقال: اتقاءً من «صيبة العين»، يا ابن أخي، فعوض أن ينظر الناس إليها نظرة حسدٍ قائلين: «ما هذه السيارة الفخمة يِخْرِب بيت صاحبها»، سيقولون: «يا حرام شو عاملين بهذه السيارة؟»
كما شاع في إحدى قرى جبل لبنان، عن امرأة تدعى «جميلة»، أنها «تصيب بالعين». وما أقنعهم بذلك يوم قامت إحدى النساء ب«سكب رصاصة» فوق رأس طفلٍ مريضٍ إذ رأوا صورة «جميلة» في الشكل الذي تحولت إليه الرصاصة، بعدما أذابتها على نارٍ حامية ثم أطفأتها في وعاء، فيه ماءٌ باردٌ، فوق رأس الطفل. فصار أهل القرية يجتنبون جميلة قدر الإمكان. كذلك أصبحت موضع تساؤلهم، عند مرض أيِّ طفلٍ، أو إذا حدث أيُّ مكروه في حيوان أليفٍ، أو شجرٍ أو نباتٍ أو غيره، عمّا إذا كانت عين جميلة السببَ في ذلك.