«آخ قتلتني يا شيخ»
حتى أواخر النصف الأول من القرن العشرين، لم تكن معظم قرى جبل لبنان، تخلو ولو من عائلة واحدة من أبناء الطائفة اليهودية اللبنانيّين. ولم تكن تلك العائلات تختلف في عيشتها وعاداتها عن سائر أبناء قراه سوى في طرق العبادة.
ويروى أن أحدهم، وكان يدعى موسى، كان يتقن مهنة «تطعيم الأشجار»[1]، وكان أصحاب البساتين يكترونه لتلك الغاية. وفي أحد الأيام اكتراه، للغاية عينها، أحد كبار أصحاب الأملاك ووجهاء قريته، وكان يدعى فؤادًا. ويبدو أنّ سوء تفاهمٍ حصل بينهما إبّان قيام موسى بعمله، لسببٍ ما، أدّى إلى تبادل الإهانات والشتائم فالصياح، ثم إلى التضارب بالأيدي، وتطور إلى عراكٍ وتقاتل بشراسة. وبدأت الغلبة تميل لمصلحة موسى، الذي كان يصغر فؤادًا ببضع سنوات، ويتمتع بقوة جسدية تفوق قوة خصمه.
وكان، في الوقت عينه، صياحهما قد وصل إلى مسامع أهل القرية، فانطلق بضعة من شبّانها، يجرون مسرعين متجهين نحو مصدر الصوت، لاستكشاف الأمر. فكان لوقع أقدامهم وهمهماتهم وتساؤلاتهم، جلبةٌ لامس ضجيجها آذان المتقاتلَين. وقبل بلوغهم ساحة المعركة، كان موسى قد طرح فؤادًا أرضًا وراح يكيل له الصفعات واللكمات. ولكنّه ما أن شعر باقتراب شباب القرية، حتى أمسكه بذراعيه، ثم انقلب على ظهره، وقلبه معه ليصبح فوقه، وكفَّ عن ضربه. ولم يكتفِ بذلك، بل راح يطلب الرحمة والصفح من فؤاد، وهو يردّد قائلًا: «دخيلك يا شيخ فؤاد، يكفي، آخ قتلتني يا شيخ، يا شباب الحقوني وخلصوني منه قبل ما يقتلني».
استغاثة موسى تلك وحيلته، أيقظتا كبرياء فؤاد وكرامته وعنجهيته، وجعلتاه يتجاوب، ومن دون تردد، مع طلب شابين أمسكا به لإنهاضه ورفعه عن صدر موسى، فانتصب على قدميه، رافعًا رأسه، شامخ القامة وكأنه هو المنتصر.
وهكذا ضمِن موسى، بذكائه ودهائه، عزوف فؤادٍ عن إظهارِ الألم أو التذمر جرّاء ما أصابه من ضرباتِ ولكماتِ، وسلِم، بالتالي، من غضبِ شباب القرية وأهلها وردات فعلهم.
[1] لعلهم اشتقوها من «أَطْعَمْتُ الغُصْنَ إِطْعامًا إِذا وصَلْتَ به غُصْنًا من غير شجره،» كما في لسان العرب.