خمسون عامًا والحرائقُ في دمي

خمسون عامًا والحرائقُ في دمي

خمسون عامًا والحرائقُ في دمي *** خمسون عامًا أعجزُ التَّأويلا

فخطيئتي أنّي رسمتُ خريطتي **** ومشيتُ في نهجِ الفداءِ سَبيلا

وخطيئتي أنّي زهوتُ بوحدةٍ ******* وضممتُها في جانحَيَّ بَديلا

وزرعتُ في يافا بذُورَ سنابِلٍ ****** فتماوجَتْ في الرافدينِ نَخيلا

( هتاف السوقي)

هذه الأبيات أهدتها إليَّ، مشكورة، منذ بضعة شهورٍ، «سيدةُ الشعر» الأخت الكريمة هتاف السوقي صادق، في مداخلةٍ لها إبّان حديثٍ لي، مع الإعلامي الأستاذ فكتور دياب، عبر أثير إذاعة الشرق الأوسط في كندا[2]، إثر استماعها لمقاطع قرأتُها يومها من مقالة، كنت كتبتها منذ بضع سنوات، بعنوان «خمسون عامًا مع الأرقام»، وبعد متابعتِها بعضًا من كتاباتي على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد وعدتها، يومها، أن يكون لهذه الأبيات موقعٌ في إحدى كتاباتي، وها أنا اليوم أفي بذلك الوعد، وأقول لها:

لقد أدركتِ، سيدتي، بإحساس «الشاعر المرهف»، بعضَ ما يؤلم النفسَ ممّا تعاني منه بلادي. ولكن، ثِقِي بأن عودَ الثقابِ الذي أشعل تلك الحرائق في عروقي، لم يولد من رحِمِ الأرقامِ، فالرقم أُحاديُ المعنى يصّورُ الحقيقة والواقع بصدقٍ. بل أنتجه ذلك الوهم الذي ملأوا به عقولنا وقلوبنا بتلك الكلمات، المُلوَّنةِ الجوفاءِ الطنَّانةِ الرنَّانةِ، التي طَبَّلتْ لها وصمَّتْ بها آذانَنَا، أبواقُ الحُكَّامِ مذ ضاعت فلسطين، في العام 1948. حتى أنّني اقتنعتُ، ولأيام معدوداتٍ، بأن النصر قريبٌ، وأنَّ بضعةَ أيامٍ فقط تفصلني عن تحقيقِ حُلُمي بأن تطأ قدمَايَ ثانيةً ترابَ أرضٍ زرتُها طفلا، لم يكن بعد قد بلغ التاسعة.

نعم سيدتي، كان ذلك منذ خمسين عامًا، وبالتحديد في الخامس من حزيران (يونيو) من العام 1967. يومها تمكن بضعةُ آلافٍ من «شُذّاذ الآفاق» أن يُمرِّغوا بالتراب والعار أنوفَ «خيرِ أمّةٍ أخرِجت للناس»، وأن يستولوا على ما تفوقُ مساحته أضعافَ ما اغتصبوه من الأرض أول مرة. ولكن لم يسكت بعد ذلك أولئك الحكّام «الكرام»، بل ثاروا وهاجوا وماجوا وعقدوا مؤتمرًا في الرَّباط، قال فيه عمر أبو ريشة، رحِمَهُ الله:

خافوا على العار أن يمحى فكان لهم ** على الرباط لدعم العار مؤتمرُ

وبعدما استعيدت سيناء، بالتذلُّلِ والذُّلِّ والمهانة، غاب الجَولانُ والضفةُ الغربيةُ وفلسطينُ بقدسها وخليلها وبيت لحمها وناصرتها، في غياهب النسيان الذي أصاب ذاكرةَ بني يعربٍ في كلِّ الأمور، إلّا في إطلاق اللحى وحفِّ الشوارب والبحثِ عن «الحور العين»، ولكن من دون أن ينسَوا أن المرأة «عورةٌ كلها»، وأنها خلقت لمتعة الرجل فقط.

عذرًا سيدتي، فالسنابلُ التي نبتَتْ من تلك البذور التي زُرِعَتْ في يافا، نضِجَت هشيمًا أشعل نيران الحرائق في أرزِ لبنان ونخيلِ العراق وياسمينِ الشام. ولم تسلم منها ليبيا واليمن، ومصر ليست ببعيدة عن ألسنتِها. أُزهقت مئات آلافِ الأرواح، وسقطَ أضعافها من الجرحى والمعوقين، وهُجِّر وشُرّد ملايين النساءِ والأطفالِ والعجزة، بحثًا عن خِيمٍ في أمكنة آمنة، تقيهم حرَّ الصيفِ وبرد الشتاء. وامتلأت نفوس الإخوةِ والأهل والأقارب وأبناء البلد الواحد، بالحِقدِ والكراهيةِ والعداوة، بعضُهم تُجاه بعض. وقتل الأخُ أخاه، والابن أباه. وأُثكِلت النساءُ ويُتِّمت الأطفال. وعمَّ الخراب والدمار أصقاع البلاد.

وعلى الرُغم من أنّ من سلِم منهم تفرّقوا وتشتّتوا وتفتّتوا، سُنّةً وشيعةً ودروزًا ومسيحيين وأكرادًا وآشوريين وكلدانيين ويزيديين وأمازيغ و… فما زال هناك من يقول: «أمجاد يا عرب أمجاد». فأنَّى لي الَّا أتحرَّقَ حسرةً على بلادي؟

واليوم، يا سيدتي، وقد بلغتُ من الكِبَرِ عِتيًّا، فلم يبقَ لي سوى أن أرجوَ ربِّي، الذي أمرني يومًا بالصبر، أن يبعثَ صلاحَ الدين ثانيةً، رافعًا رايةَ الحقِّ، لعلّه يحررُ ما سُلبَ من أرضنا ويَستعيدُ ما انتُهِك من كرامتنا.

والله على كلِّ شيءٍ قدير.


[1] كتبت هذا المقال بمناسبة الذكرى الخمسين لحرب 1967 التي سميت «النكسة»، ونشر في صحيفة الحياة في 11 حزيران 2017.

[2] كان ذلك في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2016.