أعزَّ الله غزّةَ
أخواتي وإخواني، أسعدتم مساءً
وأعزَّ اللهُ غزّة وفلسطين[1]
منذ بلوغي الخامسة من العمر، كنت كلما نظرت تُجاه الجنوب، من نوافذ منزلنا في جديدة مرجعيون، أرى المُطلّة، تلك القرية الفلسطينية على الحدود التي اصطنعها مع لبنان، إجرام اتفاقية سايكس – بيكو.
ولما بلغتُ الثامنة اصطحبني المرحوم والدي، في إحدى زياراته إلى الحُولة والخالِصة مرورًا بالمُطلّة.
وفي العام 1948، شاهدت قوافل، تمر أمام منزلنا ذاك، من المشاة والسيارات والدواب تحمل النساء والأطفال والعجزة، من الذين طردهم باتجاه لبنان، بطشُ وحقدُ وإجرامُ شذّاذِ آفاقٍ استوردَهم المستعمر البريطاني، ومنحهم حق إقامة دولةٍ على أرضِ فلسطين، التي لا حقَّ له في ذرّة واحدة من ترابها، فأعلنوها في الخامس عشر من شهر نوّار، من ذلك العام، بالتواطؤ مع دول الغرب، شركاءِ بريطانيا في الجريمة، والتي تسابقت إلى الاعتراف بها.
ولم تزل تلوح أمام ناظريَّ تلك الصورة، على صفحة إحدى الجرائد اللبنانية، في ذلك العام، يظهر فيها جنديٌّ صهيونيٌّ، في قرية دير ياسين الفلسطينية، يوجه حربة بندقيته نحو بطن امرأة حامل، يريد بَقْرَهُ، لقتلها مع جنينها.
ومنذ ذلك الحدث المشؤوم، وعلى مدى ما قارب الستة والسبعين عامًا، وعلى الرغم من أنّ كثيرين ممن صمدوا ولم يغادروا فلسطين، أصبحوا لاجئين في بلادهم، فلم يكفّْ أولئك المغتصبون عن الاعتداء عليهم قتلًا وتعذيبًا وإذلالًا وسجنًا، وبتهديمِ منازلهم وإحراقِ بساتينهم، بغية إرغامهم على هجرِ بلادهم. ولم يكفِهم ذلك كلُّه، بل عمدوا إلى منع المسلمين من الصلاة في المسجد الأقصى، والمسيحيين من الصلاة في كنيسة المهد، حتى في أيام الميلاد.
ولكنّ التعلّق بالأرض التي ورثها الفلسطينيون عن آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين، غرَس في نفوسهِمِ الصمود مهما كان الثمن. فلم ينثنوا عن الجهاد في سبيل استرداد حقوقهم وحريتهم، فشكلوا المنظمات والمجموعات المسلحة، وأشعلوا الثورات ونظّموا انتفاضات أطفال الحجارة، التي واجهها الصهاينة بالقنابل والرصاص، فأسقطوا منهم آلاف الشهداء، بمن فيهم الأطفال. ولم يزل، ماثلا أمام أعيننا، مشهد اغتيال الطفل محمد الدُّرّة وأبيه الذي كان يصطحبه من المدرسة، أمام كاميرات الصحفيين.
هذا الصمود أذهل الصهاينة، فعمدوا إلى ارتكاب المجازر، وكلِّ ما يؤدي إلى الإبادة الجماعية بغية إفراغ الأرض من أهلها. فبدأوا باجتياحاتٍ متكررة لغزّة، لأنها كانت الشوكةً الأولى في أعينهم التي تمنعهم من سرقة ثروات شواطئها من البترول والغاز، وطمعًا بموقعها الاستراتيجي، لتنفيذ مشروعهم بحفر قناة بن غوريون، بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، علّها تحلّ محل قناة السويس المصرية.
أمام هذا الواقع، أيقنت غزّةُ أنّ عليها الاختيارَ بين أمرين، فإمّا الحريةُ وعودة الحقوق لأصحابها، أو الموتُ بكرامة، تشبُّهًا بقول عنترة:
لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ *** بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
ماءُ الحَياةِ بِذِلَّةٍ كَجَهَنَّمٍ *** وَجَهَنَّمٌ بِالعِزِّ أَطيَبُ مَنزِلِ
ولهذا، حفروا الأنفاق المعجزة، وأعدَّوا لعدوّهم ما استطاعوا صنعه بأيديهم وبأساليب بدائية، فصنعوا صواريخَ «القسّام» من عبوات الغاز (البوتاغاز) المستطيلة، المستخدمة في الأفران والمطاعم وغيرها، وحشوها بالبارود المطهوِّ بطريقة بدائية، تقولها طبخةَ شوكولاتة في طنجرة قديمة. هذه الصواريخ التي كان مداها في البدء، ألفي مترٍ، ثم طُوِّرت ليصبح مداها مائةً وخمسين كيلومترًا، لتطال تل أبيب (تلّ الربيع الفلسطينية)، أرعبت الصهاينة فبنَوا القُبّة الحديدية لعلها تحميهم من خطرها. كما سبقوا، دولًا عديدةً في إنتاج الطائرات المسيّرة.
وفي السابع من شهر تشرين الأول / أكتوبر 2023، خرج المارد الغزّاويُّ من تحت الأرض ليثبت لبني صهيون وللعالم أجمع، أنّ فلسطين للفلسطينيين، سيسترجعونها مهما طال الزمن.
فكانت ردة فعل الصهاينة همجيةَ العنفِ والوحشيّةِ والحقدِ المشبعةُ به نفوسُهم، ما قد يفوق كثيرًا مما سجلته كتب التاريخ، فوجهوا كلّ ما يملكون من أسلحة الفتك والدمار نحو جميع معالم الحياة على كل شبرٍ من أرضِ غزة، ولم يستثنَوا مستشفًى أو كنيسةً أو مسجدًا أو مدرسةً أو حتى دارَ حضانة، إلّا دمروها. وقتلوا عمدًا آلاف الأطفال والنساء؛ بالإضافة إلى العديد من الأطباء والمسعفين والممرضين.
وما يحزُّ في النفس، وقوفُ معظم دول الغرب إلى جانب الظالم المغتصب بحجة حقِّه في الدفاع عن النفس، وكأنّ الفلسطينيَّ ليس إنسانًا كي تحقَّ له المطالبة بحريته وكرامته وإنسانيته، وبحقوقه المغتصبة منذ ما يقارب القرن من الزمن. والمضحك أنهم اتهموا الغزاويين أيضًا بانتهاك القوانين الدولية.
أمّا حكّام الدول العربية والإسلامية، فكأنّ ما يتعرّض له أبناء غزّة يجري في كوكب المرّيخ، وكأنهم كائناتٌ غريبةٌ لا تربطهم بهم لغةٌ أو قوميّةُ أو دين، أو حتى إنسانيةٌ.
ولم نرَ الإنسانية إلّا من دولتي جنوب إفريقيا ونيكاراغوا بوقفتهما المشرّفة بجانب الفلسطينيين وحقوقهم.
فيا إخواني أبناء غزّة، يكفيكم فخرًا واعتزازًا أنّكم مرّغتم أنوف الصهاينة بأديم أرضكم المقدسة، ووقفتم شامخي الرؤوس، على مدى ما يزيد عن الأشهر الستة، أمام ما كان يصنّفُ بين أقوى جيوش العالم، في أطول حربٍ خاضها، وأنّكم جعلتم علم فلسطين يخفق عاليًا في جهات العالم الأربعة، وأعدتم قضية فلسطين إلى العلن ليعرف بها الصغير والكبير، البعيد والقريب، بعدما كادت تصبح في عالم النسيان، وبرهنتم للعالم أجمع أنّ فيكم إرادةً لما فعلت غيّرت وجه التاريخ.
﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة 249). (صدق الله العظيم).
كما كشفتم كذِب ونفاقَ حاملي رايات الحريات وحقوق الإنسان والقوانين والمنظمات الدولية، ومدّعي حمل قضية فلسطين، والقومية العربية والأخوّة الإسلامية. وأسقطتم الرداء عن كلٍّ منهم، فبانت عوراتهم أمام القاصي والداني.
كلًّ هذا يجعلني أرى نورًا يبزغ من نهاية نفقِ الظُّلم والاغتصاب والإجرام، في أنَّ وعد الله فيهم قد أصبح قاب قوسين أو أدنى، في قوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا *﴾ (الإسراء 4 -7). (صدق الله العظيم).
اللهم، يا نصير الضعفاء والمظلومين، انصر عبادك المظلومين في غزّة على أعدائهم الغاصبين الظالمين المجرمين.
اللهم انصرهم، اللهم انصرهم، اللهم انصرهم.
اللهم واجعلني أرى فلسطين محرّرة، قبل أن أغادر هذه الدنيا، وحقِّقْ لي أمنيتي في أن تطأ قدماي، في شيخوختي، أرضًا زرتُها طفلا لم يبلغ التاسعة، يا من هو على كل شيء قدير.
وعشتم وعاشت غزة وعاشت فلسطينُ عربيةً حرّةً أبيةً.
مونتريال
20/4/2024
[1] كلمتي في الأمسية الأدبية والفنية، تحت عنوان: «حرائق فلسطين بين كنيسة المهد والمسجد الأقصى»، مساء يوم السبت الواقع فيه 20/4/2024.
ومن يرغب يمكنه الاستماع على الرابط التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=REEHsPqLM1M