غِربانُ السُّلطَة

في الأساطير، أنَّ بِضعةَ غِربانٍ تسلّمَتْ، في غفلةٍ من الزَّمنِ، زمامَ الأمور في ربْوةٍ من أجملِ روابي الشَّرقِ. فيها من الأشجارِ المثمرةِ ما لذَّ وطابَ، ترويها ينابيعُ أمواهٍ عذبةٍ قلَّ نظِيرُها.

لم تكنْ تلك الغِربانُ على اتفاقٍ يومًا على ما فيه الخيرُ لتلكَ الرَّبوة، ولكنّ المصالِحَ الخاصَّةَ كانت الأمرَ الوحيدَ الذي اتفقتْ عليه. فتقاسمتْ أنحاءها وخيراتِها، ولم تتركْ لصغار الطّيور سوى بعضِ الفُتاتِ. ولتتمكَّنَ تلك الغربان من الاستمرارِ في التّزعُّمِ والتَّربّعِ على رِقابِ تلك الطُّيور زرعتْ في نفوسهنَّ الكراهيةَ والأحقادَ تُجاهَ بعضِهنّ بعضًا، بعدَ أن فرّقَتْهنّ أنواعًا وفصائلَ متناحرة. وجمعَ كلُّ من تلك الغربان حولَه عددًا من الزّرازير وأشباهِها، وأنعم عليهنّ بالألقاب المتنوّعة، وخصّهنّ بمواردَ لا بأسَ بها. واكترى أسرابًا من الوراور لتكون أبواقًا تهتِفُ لمصلحة فصيلهِ المتمثّلةِ بمصلحةِ ذلك «الزعيمِ».

وكانَ كلُّ غُرابٍ دائمَ النَّعيِق بكيلِ التُّهمِ والشَّتائمِ بوجهِ أندادِهِ، مُدّعيًا بأنّهُ حامي حقوقَ أبناءِ فصيلهِ. ولم يكنْ يتوانى عن افتعال الأزمة، كلّما شعرَ أنَّ حصّتَه من خيرات الرَّبوةِ تتعرَّضُ لخطرٍ ما. وهكذا غدَت الأزماتُ والمشكلاتُ والمعضلاتُ دائمةَ التوالي لإلهاءِ «الرّعايا» عمَّا يقومُ بهِ «زُعماؤها» من نهبٍ وسرقةٍ وتخريبٍ، لثروات الرّبوة.

أمَّا إذا تجمَّعَ بعضٌ من صغارِ الطُّيور للمطالبةِ بحقوقهنّ في الحصول على ما حُرمنَ منه من الثّمرِ أو المياه، فكانَ أحد كبارِ تلك الغربان يبعث ببعضِ أتباعِه لتندسّ بينهنّ ثم تفتعلَ خلافاتٍ تفرضُ على تلك الطُّيور أن تَذهبَ أيدي سبأ[1]، من دون أن تحصل على أي شيء.

وكانَ يُحيطُ بهذه الرَّبوةِ روابٍ وأصقاعٌ يحكمُها صقورٌ، يطمعُ كلٌ منها في السَّيطرةِ عليها، ولو لم يكنْ يخافُ الاصطدام مع الباقين لعمد إلى ذلك، ولذا كان يعمدُ إلى توثيقِ علاقته بأحدِ «زُعمائها» واعدًا إيَّاه بأنه إذا لم يتمكن من جعله حاكمَ الرّبوةِ الأوحدَ، فسيساعده على تحصيلِ حقوقِ فصيلِه، إنْ هو نفّذَ ما يطلبُهُ منه. كما كان ذاك الصّقرُ يُنعِمُ على «حليفهِ» بعطاءاتِ مختلفةٍ ومتنوّعةٍ حسبَ الأمر المطلوب منه أن يؤدّيَه. وهكذا أصبحَ كلُّ غرابٍ «خادَمًا» لمصالحِ صقره، آملًا ترسيخَ أقدامه على أرضِ سُلطتهِ وتوريثها لأبنائه.

وهكذا عاشت طيور هذه الربوة الجميلة تتسوّلُ قُوْتَها اليوميّ مقموعة مذلولة؛ وتلك الغربان ماضية في نهجها. ولكن لما تحققت تلك الطيور من نضوب موارد ربوتهنّ، وأيقنت أن الغربان لن تتوانى عن مصِّ ما تبقى من دمائهنّ، وبالتالي لم يبقَ لديهن ما تُخشى خسارته، كسرنَ جدران الخوف من تلك الغربان وأزلامها، انتفضنَ وثُرنَ، صغارَا وكبارًا، ذكورًا وإناثًا، في سبيل استعادة الحقوق والحريات والموارد والعيش الكريم.

في البدء، لم تصدّق الغربان أن النعاج يمكن أن تثور يومًا في وجه جزاريها. فراحت تعمل على بثّ الفرقة بين رعاياها بالأساليب القديمة والمستحدثة، ثم بالوعود البراقة والكلام المعسول المؤيد لمطالب الطيور، وكل غرابٍ يلقي اللوم على الآخر. ولكن الطيور لم تنطلِ عليها الحيل وتابعت مسيرتها. فما كان من تلك الغربان إلا أن لوثت مياه ينابيع الربوة، واستنجدت بصقور الربى المحيطة، فبعثت لها ببضعة «قيقان» لتزيد نواحي الربوة فسادا وخرابا، وأشعلت النار في بعض أشجارها، مما اضطر الكثير من الطيور، إلى هجرة أعشاشها، إلى حيث يمكن لأجنحتها أن تنقلها. أما اللواتي لم تتمكن من ذلك، فأصبح همّها البحث عن قوت يومها بين حطام أغصان الأشجار المحترقة، ذليلة، تستجدي من الغربان، فتات فضلات ما خصّت به زرازيرها ووراورها.

وعادت تلك الغربان إلى نعيقها وإفساد ما تبقى من الربوة، غير آبهة، سوى لإرضاء وتنفيذِ رغبات الصقور اللواتي استخدمتها.

[1] اليَدُ: الطَّرِيق، يقال: أَخَذَ القَومُ يَدَ بَحْرٍ. قيل للقوم، إِذا تَفَرَّقوا في جهاتٍ مختلفة: ذَهَبوا أَيدي سَبَأ أَي فَرَّقَتْهم طُرُقُهم التي سَلَكُوها كما تَفَرَّقَ أَهلُ سَبأ في مذاهبَ شَتَّى. (عن لسان العرب).