جمال الخريف في مونتريال

 جمال الخريف في مونتريال

تبدأ تباشير فصل الخريف في مونتريال بالظهور قبل موعده «الجغرافيّ» بنحو الشهر. فحرارةُ الجوّ، يروحُ يتناوبُها فصلا الصيفِ والخريفِ، ولكن لا كحركة المدِّ والجزر إذ في هذه انتظامٌ زمنيٌّ، بل هي أشبهُ بلعبةِ شدِّ الحبلِ تتأرجحُ فيها الغلبةُ بين الطرفين في كلِّ لحظة وفي غير انتظام، فبعد أن تتيقنَ من أنَّ الغلبةَ ستكونُ لهذا الفريقِ فإذا بك تراها تحولت إلى الآخر. وهكذا تصبحُ حالُ الجوّ، فاليوم ترتفعُ الحرارةُ إلى ما يزيدُ عن الثلاثين درجةٍ مئويةٍ وفي اليوم التالي قد تنخفض إلى ما دون الخمس عشرة أو قد تتدنى ليلا لتصل إلى السبع درجات، لتعود إلى الارتفاعِ غدًا أو بعد غد.

وقد نستيقظُ صباحًا وقُبّةُ السماء لا يعلوها أيُّ وشمٍ من الغَمامِ، وأشعةُ الشمسِ تملأ الأرضَ والسماءَ. ثم قد لا تمضي ساعاتٌ معدوداتٌ ليتحوّلَ صفاءُ الجوِّ إلى غيومٍ متلبدةٍ تمنعُ ولو شعاعًا واحدًا من أشعة الشمسِ أن يخترقَها، فينوبُ عنها وميضُ البرقِ في تزويدِ الطبيعةِ بفُسحاتٍ متقطعةٍ من النورِ. وتتولى الرياحُ مهمةَ هَزْهَزَةِ الأشجارِ فترى أغصانَها والجذوعَ تتمايلُ كأنها تتراقصُ على أنغامِ حفيفِ الريح، بينما دويٌ الرعدِ يصمُّ الآذان. ثم ينهمرُ المطرُ غزيرًا فتغسِلُ أمواهُهُ أوراقَ وأفنانَ الشَّجرِ وإسفلتَ الطرقاتِ وأسطحَ المنازلِ والسياراتِ، على الرُّغمِ من نُدرةَ التلوثِ في الجوِّ، تجعلُ كلَّ شيءٍ في مونتريالَ يَلبسُ دومًا ثوبَ النظافةِ. إنَّها عاصفةٌ عابرةٌ، أو كما نقولُ في شرقنا: «سحابةُ صيفٍ»، قد لا تمتدُّ لأكثرَ من ساعةٍ واحدةٍ تهدأُ بعدها سريعًا، فتتحولُ تلكَ الغيومُ، في ساعاتِ الأصيلِ، إلى أشكالٍ فنيةٍ، متناثرةٍ هنا وهناك، تنعكِسُ عليها أنوارُ شمسِ الأصيلِ راسمةً لوحةً متعددةَ الأشكالِ متناسقةَ الألوانِ المتدرجةِ من الرماديِّ الدّاكنِ إلى الأبيضِ الناصعِ، يتخلَّلُها الأصفرُ والبرتقاليُّ والأحمرُ، إلى أنْ تنحسِرَ مع تواري قرصِ الشمسِ خلفَ الأفقِ البعيدِ.

أُطِلُّ في الصباحِ من على شُرفةِ المنزلِ لأمتِّعَ ناظريَّ بلوحةٍ فنيةٍ أُخرى رسمَتها بلديةُ المدينةِ، بِساطًا سُندسِيًا من العُشبِ الأخضَرِ تعلُوهُ أشجارٌ متنوعِةٌ، غيرُ مثمرةٍ، تتراوحُ طولًا بين المترين وما يزيدُ عن الخمسةَ عشر مترًا، في حديقةٍ شاسعةِ الأطرافِ، هي واحدةٌ من عدّةِ حدائقَ عامَّةٍ موزعةٍ على أحياءِ المدينةِ، رئاتٍ تزودُ السُّكان بالهواءِ النقيِّ، وملاعبَ للأطفال، ومتنزهاتٍ للمسنين. ومع تباشيرِ فصلِ الخريفِ يبدأ المشهدُ يتبدّلُ يوميًا حتّى ما بعد بدايتِه الجُغرافيةِ ببضعةِ أسابيع. اليوم أرى بضعَ وريقاتٍ سَقطتْ عن الأغصانِ وافترشَت الأرضَ، بعد أن زادَ اصفرارُها إلى البنِّيِّ. وبعدَ يومٍ أو اثنين أرى اخضرارَ أوراقِ شجرتين أو ثلاث قد رُصِّع بمجموعاتٍ من الأوراقِ الصُّفر، تقولُها عناقيدُ عنبٍ، لوَّحَتْها شمسُ الصيفِ بقليلٍ من الصُفرةِ، تتدلى من بين أوراقِ كرمةٍ عُلِّقتْ أغصانُها على شجرةِ ملُّولٍ في أعالي جبالِ لبنان. ثم تأخذُ أعدادُ تلك الأوراقِ تتزايدُ وتتبدَّلُ ألوانُها بالتدريجِ. فبعد أن تزدادَ صُفرةً يومًا بعد يومٍ، تأخذُ بالتّحوّلِ إلى الاحمرارِ ليقرُبَ بعده من البُنِّيِّ، فترى الشجرةَ الواحدةَ، أحيانًا، متلونِةً بخمسةِ ألوانٍ أو أكثرَ. ثمَّ تروحُ تتساقط ُعلى أعشابِ الحديقةِ، التي تحتفظُ بخُضرتِها حتى تُغطّيها ثلوجُ الشتاء، إلى أن تعرى الأغصانُ تمامًا معلنةً البدايةَ الفعليةَ لفصلِ الخريفِ. أما أشجارُ الأرزِ التي تنتصِبُ في أماكنَ متفرقةٍ من الحديقةِ، كأنَّها هناك لحراستِها، فتتحدَّى بشُموخِها عواملَ الطّبيعةِ محتفظةً بأوراقِها الخُضرِ على أغصانِها على مَدارِ السّنةِ. 

وفي طرفِ الحديقةِ القريبِ من المبنى، الذي نسكُنُ في إحدى شققِ الطبقةِ الخامسةِ منه، بضعُ شُجيراتٍ تلاصَقَتْ وتكاثفتْ كأنَّها عُلَّيقَةٌ صغيرةٌ، ولكن من دونِ شوكٍ، على حافَّة ساقيةٍ في ربوعِ جبالِ لبنان.

وبجانبِ هذه «العُليقة» شجرةٌ سبقتْ أخَوَاتِها بالتّعرِّي كُليًا، حولَها بِضْعٌ بأوراقِهنَّ المتلونة، كأنّهُنَّ يُحاولْنَ أن يَحتضِنَّ تلكَ الأختِ ليدْرَأنَ عن أفنانِها نفحاتِ نسائِمِ رياحِ الخريفِ. 

ومع أوائلِ شهرِ تشرين الأول (أكتوبر) يبدأ لونُ أوراقِ تلك «العُلَّيقةِ» يتحولُ يومًا بعدَ يومٍ من الأخضرِ إلى الأحمرِ الأرجوانيِّ بمنظرٍ أراهُ كلَّ صباحٍ يتبدلُ بانتظامٍ بازدِيادِ عددِ الأوراقِ المُحمرَّة، إلى أن يذوبَ الأخضرُ كليًّا في الأرجوانيِّ، ثم يروحُ هذا يتحولُ إلى الزَّهريِّ فالأبيض فالأصفر، وقد تستغرقُ مراحلُ هذا التحوُّلِ ما يقارب الشَّهرَ الواحدَ، إلى أن تبدأَ تلك الأوراقُ تتساقطُ كأنَّها تريدُ تخفيفَ الحملِ عن الأغصانِ التي تتحضَّرِ لاستقبالِ ثلوجِ الشتاءِ القادمِ.

هذه اللوحةُ التي تُرسُمُها أشجارُ حديقتِنا هي صورةٌ مصغّرةٌ عمّا نراهُ في خارجِ المدينةِ، حيثُ تكسُو تلك الألوانُ، بتنوُّعِها وتعدُّدِها، أشجارًا، متلاصقة الأغصان، قائمةً على أراضٍ مختلفَةِ المساحاتِ، من جزيرةٍ صغيرةٍ في إحدى البحيراتِ إلى سهولٍ واسعةٍ تمتدُّ عشراتِ أو مئاتِ الكيلو مترات، «جنات على مد النظر». 

فسُبحَان الخالق فيما خلق.

[1] نشر هذا المقال في جريدة الرِّسالة – مونتريال – كندا في العدد 422 تاريخ 14/9/2018.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *