خمسون عامًا مع الأرقام

خمسون عامًا مع الأرقام[1]

الاكتشافات والاختراعات والإنجازات المهمة تكون بداياتها أحلامًا تدغدغ مخيلات أصحابها قبل أن تتحول إلى حقيقة واقعة. وما من إنسان، في جميع مراحل حياته، إلاّ ورسم في مخيلته صورةً أو خطةً لعملٍ ينوي القيام به. وعلى الرُّغم من أن لكلّ مرحلة أحلامًا تتناسب مع عدد سنوات العمر، كحلم الطفل بالحصول على لعبة رآها مع تربٍ له أو سمع منه عنها؛ إلاّ أنّ هناك حلمًا يرافق الإنسان منذ طفولته وحتى دخوله معترك الحياة أو إلى ما بعد ذلك، عنيت المهنة التي يرغب في أن يعمل بها عندما يصبح شابًا، أيكون مهندسًا أم طبيبًا أم مزارعًا أم غير ذلك؟ واللائحة طويلة. وكثيرًا ما يبدل ويغير ويعدِّل في طموحه، ولكن الحلم يبقى حلمًا.

أنا لم أشذّْ عن هذه القاعدة. وعلى ما أذكر، فإنني في أوائل العقد الثاني من سنوات العمر كان حلمي أن أمتهن الهندسة، وبالتحديد هندسة الميكانيك التي كانت ستتيح لي إمكان تحقيق الحلم الأكبر، ألا وهو اختراع محرك يستمد طاقته من الماء. مع الأيام وتبدّل الظروف، أخذت تشدني بزة ضابط الجيش، فتحوّل حلمي إلى الانتساب إلى الكلية الحربية لتحقيق هذه الغاية. ولكن مع السنة النهائية من التعليم الثانوي، تبدلت رغبتي فرحت أحلم في دراسة الفلسفة.

وفجأة، مع صباح الخامس من شهر آذار من العام 1959، رأيتني أعمل في أحد المصارف التجارية في بيروت. ومع ذلك اليوم بدأت رحلتي الطويلة مع الأرقام. فكان أن امتهنت، بعد ذلك، مهنة المحاسبة وتدقيق الحسابات ولم أزل حتى يومي هذا.

وإذا كانت المهنة سبيلًا لتأمين موارد العيش ومتطلباته، إلاّ أن لكلّ منها لمساتٍ يزداد مع الأيام تأثيرها على صاحبها في تفكيره ونهج معيشته وتعامله مع الآخرين، حتى في كلامه. فبائع الورد يفوح عطر وروده من حديثه. أما رفيق الأرقام فقد تصطبغ كلماته بصبغة جمود تلك الأرقام ويبوستها.

كذلك فهي تعلّم صاحبها كثيرًا مما لم يتعلمْهُ سواء في المدرسة أم في الجامعة. ويزداد تأثيرها في سلوكه وعمله كلما تقدمت به السنون في ممارستها.

فقد علمتني الأرقام أن أعتمد المنطق أساسًا في كل عمل أقوم به. إذ أن النتائج تحكمها المعطيات دومًا. فعملية جمع اثنين واثنين مثلًا، لا يمكن أن تُنتِجَ إلاّ أربعة. كما أن قسمة عشرة على اثنين ستكون نتيجتها خمسة، مهما تغير نوع المقسوم أو لونه.

كما تعلمت منها، أنّ أقصرَ مسافة بين نقطتين هي الطريق المستقيم، وهذا ما جعلني أحاول جهدي أن اعتمد مبدأ «خير الكلام ما قلّ ودلّ»، وأنّ الاختصار الموضح، والتوجه المباشر إلى الهدف أو الغاية، سواء في القول أم في الكتابة، يجعلان السامع أو القارئ يستوعبان مقالتي من دون ملل.

علمتني الأرقام، أيضًا، الصبر وطول الأناة. فكم من «ليلة نابغية[2]» أمضيتها بحثًا عن قرشٍ واحدٍ زادت به إحدى جهتي ميزانٍ حسابي عن الأخرى.

والرقم جامدٌ أحاديُ المعنى غيرُ قابلٍ للتأويل، فالخمسة لا يمكن أن تعنيَ أربعة أو ستة.  وفي هذا صدقٌ متناهٍ. وهو يختلف عن الحرف بحركاته (الفتحة والضمة والكسرة والسكون)، اللواتي يجعلنه متعددَ المعاني، قابلًا للتأويل. فهذا الرقم الجامد لا يعكس أيّ نوعٍ من العاطفة كتلك التي تفوح من بيتٍ واحدٍ من الشعر. وكثيرًا ما يكون في إظهار العاطفة ولو القليلُ من المبالغة، وفي المبالغة بعضٌ من الكذب، كي لا أقول أكثر. فإذا قال خبير المحاسبة في تقريره: «لقد بلغ رصيد الصندوق في مؤسسة كذا… بتاريخ كذا… ما قيمته ألف ليرة لبنانية»، فهو يصور بصدقٍ حقيقةً واقعةً. أما عندما قال الأخطل الصغير:

قتل الوردُ نفسَهُ حسدًا منكِ *** وألقى دِماهُ في وجنتيكِ

والفراشةُ ملّتِ الزهرَ لما ** حدّثتها الأنسامُ عن شفتيكِ

فقد ارتقى إلى أعلى حدود المبالغة. وقديمًا قيل: «أعذبُ الشعرِ أكذبُه».

فيا زميلي العزيز، الذي لم يزلْ طريَّ العود وفي بداية المشوارِ، أوصيكَ بأن يكون تقريرك المالي دومًا عاكسًا الحقيقة بصدقٍ ومن دون إي تناقضٍ، فأنت رفيقُ الأرقام الصادقة. والصدقُ من صفات الأنبياء. وتقريرك ليس سلّمًا ترقاه لتصلَ إلى ما ليس لك فيه حق. وأوصيك بألا تسْعَ وراء الشهرة الزائفة بطريقة أشهر شعراء العربية، أبي الطيب المتنبي، الذي بعد أن اعتلى أرفعَ درجاتِ الفخرِ عندما قال:

الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني *** والسيفُ والرمحُ والقِرطاسُ والقلمُ

عاد وانحدر إلى أدنى دركات الخنوع، حين قال لسيف الدولة الذي ضربه فأدماه:

إن كان سَرّكمُ ما قال حاسِدُنا*** فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ

أخيرًا، أقول لك يا أيها الزميل: إذا لم تستطع أن تعملْ بالمهنة التي تحب، فنجاحك يضمنه لك حبّك للمهنة التي تعملُ بها.


[1] نشر هذا المقال في جريدة النهار عدد يوم الجمعة 06 آذار 2009 – رقم 23631 السنة 76، وقد عدلت هيئة التحرير عنوانه ليصبح: خمسون عامًا مع الأرقام – «مهنتي كمحاسب.. وتوصيتي». ونشر أيضًا في مجلة المحاسب اللبنانية العدد 37 الفصل الأول 2009.

[2] نسبة إلى النابغة الذبياني في قوله: كِليني لهمٍّ يا أميمة ناصبي***وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكبِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *