نافذتي

في إحدى شققِ الطبقة السابعة من أحد المباني على جادة «الأكادي» في مدينة مونتريال، اتخذنا أنا وزوجتي، مسكنًا لقضاء سويعاتٍ من خريف العمر.

لغرفتي نافذةٌ تطل على جُزءٍ من حديقة عامة شاسعة الأطراف. أقف يوميًا مرتين أو أكثر أمامها لأتفقد هذا الجزء، الذي يفوق مساحة حديقة الصنائع في بيروتنا الحبيبة. يفترش أرضَه صيفًا بساطٌ سندسيّ من العشب الأخضر، ترويه الأمطار، ولو مرة في الأسبوع، شأن خاصيّة الجوّ الكندي، لتبقيَه دومًا مخضرًّا. وفي إحدى ثناياه خصّصت البلدية ثلاث مساحاتٍ صغيرة كملاعب للأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين السنتين والعشر. وجهّزت كلًا منها بما يناسب من الهياكل المعدنية يتسلقها أولئك الأطفال ليتزحلقوا بعدها، على الألواح المخصّصة لذلك، نزولًا إلى الأرض المفروشة بالرمل. وهكذا يعيشون لساعاتٍ في أحضان الطبيعة فتخفف تلك الألعاب عن أنفسهم ضغط ذلك المخزون من الطاقة الذي بدأ يتفجر في أجسادهم الصغيرة. وترى أمهاتِهم أو آباءَهم يراقبونهم من على مقاعدهم التي وضعتها البلدية خصّيصًا بالقرب من تلك الملاعب.

فكم تذكرت طفولتي، وأنا أنظر إليهم، حين كنت أتسلّقُ أشجار حديقة منزلنا في جديدة مرجعيون لأقطف ما تيسر من ثمراتها، أتلذّذُ بطعمها الشهيّ، الذي لم تكن بعد قد أفسدته الأسمدة والأدوية الكيماويّة.

يتخلل هذه الحديقة ممراتٌ، ليس فيها الكثير من التعرّج، فُرشت أرضُها بنوع من الحصى الصغير الرمادي اللون، وعلى جوانبها زُرعت بضعة مقاعد من حديد وخشب. وانتصبت على أطرافها وفي بعض ثناياها أشجارٌ وارفةٌ منها ما لا يزيد ارتفاعه عن المترين أو الثلاثة ومنها ما قد يفوق الأربعة عشر مترًا.

من نافذتي أرى على ذلك المقعد شابّين متلاصقين، حينًا يقبّلها وحينًا تقبّله، وأحيانًا يتبادلان أطراف الحديث؛ آهٍ… ليتني أستطيع سماع بعضٍ من كلماتهما فتعود بي الذاكرة إلى سنين عديدة خلتْ، يوم كنا في ريعان الشباب، نفوسنا مملوءة بالحيويّة والتفاؤل بمستقبل واعدٍ. «ألا ليت الشباب يعود يومًا…». وعلى تلك الممرّات أرى رجالًا ونساء من مختلف الأعمار، هذا مسنٌ يتوكأ على عصاه وينقل أقدامًا أتعبتها السنون. وذاك كهلٌ يسير بخطىً حثيثةٍ سعيًا وراء قوةٍ يمدّ بها جسده ليبعد ما استطاع تلك الأيام التي قد تفرض عليه التوكأ على العصي أو القعودَ على كرسيٍّ متحرّكٍ، أو في سريرٍ في إحدى زوايا غرفة قليلًا ما يخرج منها. وذلك شابٌ يهرول أو يركض ليُكسب جسده القوة التي تمدُّه بالحيوية والنشاط.

وقد أترك أنا أيضًا نافذتي وأهبط إلى تلك الحديقة متشبهًا بمن سبقني إليها ولأحرك هاتين الرجلين لعشرين أو ثلاثين دقيقة أعود بعدها إلى كتبي وأوراقي ودفاتري.

كلٌّ منا يفرُّ إلى تلك الحديقة ليبتعد ولو لساعة أو حتى أقل عن ضوضاء المدينة وتجهيزاتها الحديثة التي جعلت أجسادنا تفتقر إلى الكثير من الحركة.

أما عصافير الدُّوري وطيور الحمام والنورس وغيرها فلا تزال تتمتع بما توفّره لها الطبيعة، وها هي تتنقل بين أغصان الشجر وعلى أرض الحديقة لتتقوَّت لساعتها، لا لتجمع أكثر قدرٍ ممكن كما يفعل الإنسان، الذي يجمع حبًّا في الجمع. ولا أنسى ذينك السنجابين يتنطّطان على أرض الحديقة ثم يتسلقان أغصان الشجر سعيًا أيضًا وراء قوت يومهما.

هذه أيام الصيف تتوالى مسرعة ليأتي بعدها فصل الخريف. فإذا جاءت أيّامُه الأولى رأيتَ أوراق الشَّجر تتبدلُ ألوانها، فمنها ما يتحول أخضره إلى الصُّفرة وهذا إلى البرتقاليّ وذاك إلى العنَّابيّ وذلك إلى ما يقارب الأحمر. وقد ترى في الشجرة الواحدة لونين أو ثلاثة أو أكثر. لوحات جميلة خلَّابة رسمتها يد الطبيعة. ثم تبدأ تلك الأوراق تتساقط على أرض الحديقة إلى أن تعرى أغصانُ الشجر تمامًا بانتظار فصل الشتاء. ولكن تبقى هناك بضع شجرات رؤوسها شامخة، شموخ الأرز، تتحدى الفصول الأربعة وتغيّراتها، رافضةً أن تخلع رداءها الأخضر الجميل الذي خصّتها به الطبيعة.

وتذهب أيّام الخريف ويأتي فصل الشتاء، فأراه من نافذتي وكأنّي به يقول للأمطار: كفاكِ أنتِ، فاذهبي وابحثي لكِ عن أرضٍ أخرى بحاجة لأمواهك فقد اشتاقت ثلوجي لهذه الأرض. وتبدأ الثلوج تفترش أرض حديقتي وتتعلق بأغصان شجرها من شدّة الشوق. وما هي سوى أيَّامٍ حتى يختفيَ كليًا ذلك البساط السُّندسي ليحلَّ محلَّه بياضُ الثّلج النّاصع. وإذا بأرض حديقتي تصبح كلّها قطعةً بيضاء واحدة. ولكن قد يحتاج أحدهم أن يجتازها من طرف إلى آخر فيتركَ خلفه آثار أقدامٍ تدلُّ على مسيرته. وقد يثير هذا غضبَ الثّلوج فتعود إلى الهطول لتمحوَ تلك الآثار.

وينتقل عمَّال البلدية من الاعتناء بالحديقة إلى رفع الثُّلوج عن الطُّرق والأرصفة. فتلك آلةٌ كبيرةٌ، أراها من نافذتي، ترفع الثّلج من وسط الجادّة إلى جانبيها، وتلك أخرى صغيرة ترفعه عن الرصيف، وهذه ثالثة تسير، بعدهما، تنقل ما تجمع على جانبي الطريق إلى صندوق شاحنة تسير بجانبها، لتغادرها، بعد امتلاء صندوقها، إلى مكان بعيد مخصَّص لتُفْرغَ فيه حملها، فيتحول سهلُه إلى جبلٍ من أكوامِ الثّلج. وتتوالى الشاحنات بالنَّقل إلى أن ترى الشارع وكأنه لم يزرْهُ سوى القليلِ من تلك الثلوج.

كلّ أولئك الذين كانوا يزورون الحديقة صيفًا، وأنا منهم، قبعوا في منازلهم هربًا من البرد القارس، ليتمتعوا بالدّفء الذي توفّره لهم أجهزة التدفئة الحديثة. ومن يأتي إلى مونتريال زائرًا، صيفًا، لا يمكنه تصوّر قساوة شتائها، ففي شهري تموز وآب ترتفع الحرارة إلى ما يزيد عن الثلاثين درجة مئوية، وقد تصل أحيانًا إلى الأربعين، ثم تنخفض في الشتاء إلى ما دون الأربعين تحت الصفر وقد تصل أحيانًا إلى الخمسة والأربعين أو الخمسين. وهذا الزائر سيَعجَب كيف يستطيع جسد من يعيش في كندا تحمُّل هذا الفرق السنوي الكبير في درجات الحرارة الذي قد يزيد عن الخمسة والثمانين درجة. ولكن لعلَّه يتذكَّر أنَّ خالقَ هذه الأجساد، قد زوَّدها بطاقة تجعلها قادرة على التأقلم في مدة وجيزة، مع أي جوٍّ تحتاج العيش فيه. فسبحانه وتعالى والشّكر له على نعمه.

قد تطول أيام الشتاء لأكثر من أربعةِ أشهرٍ ليعود بعدها فصلُ الرّبيع حاملًا معه نسيمات الدِّفء الأولى، فتغادر الثلوج أغصان الشَّجر وأرض حديقتي، وتبدأ البراعم بالتكوّن، وأوراقُ الشجر بالتفتح صغيرةً. ثم ما هي إلا أيام معدودات حتى تزداد حجمًا تحت أشعة الشمس التي تجعل لونها يتحول من القريب من الأبيض إلى الأخضر الذي سبق وخطفته منها أيّام الخريف.

وكثيرًا ما كان يزور مخيلتي، وأنا واقف أمام نافذتي، طيفُ أولئك الذين كانوا يقطنون، لا في مونتريال فقط، بل أيضا في كندا كلِّها. وكيف كانوا يعيشون قبل هذه التجهيزات والآلات والسَّيارات وغيرها… التي تسهِّل سبل المعيشة في هذه الأيام. إنني أتخيلهم، شتاء، يتنقلون عند الضَّرورة على زحَّافات من الخشب تجرُّها الحيوانات، ويرتدون الثياب المصنوعة من الفراء تغطي أجسادهم بالكامل، فيما عدا العينين، ليتحسّسوا طريقهم سعيًا وراء ما قد يحتاجون إليه من مواد الغذاء. وفي الصيف والخريف أراهم يعملون على جمع المؤن من المواد الغذائية ليقتاتوا بها في الشتاء، وقِطعٍ من الحطب والفحم يشعلونها لتقيَهم برده القارس. كما أتخيّلهم ينامون مع العِشَاء أو بعده بقليل لقلّة سبل الإنارة.

فالحمد والشكر دومًا لله تعالى الذي قسم لنا أن نعيش في هذه الأيام التي يتوفّر لنا فيها الكثير مما يجعل معيشتنا أسهل من معيشة الذين سبقونا.

فيا نافذتي العزيزة لكِ مني المحبة والشّكر على ما وفِّرتِ لي من مشاهد جميلة ومناظر خلابة جعلت بصيرتي ترى ما وراء ما يستطيع بصري أن يراه، وزادتني إيمانًا بعظمة الله خالقي وخالق الأكوان جميعها.

في إحدى شققِ الطبقة السابعة من أحد المباني على جادة «الأكادي» في مدينة مونتريال، اتخذنا أنا وزوجتي، مسكنًا لقضاء سويعاتٍ من خريف العمر.

لغرفتي نافذةٌ تطل على جُزءٍ من حديقة عامة شاسعة الأطراف. أقف يوميًا مرتين أو أكثر أمامها لأتفقد هذا الجزء، الذي يفوق مساحة حديقة الصنائع في بيروتنا الحبيبة. يفترش أرضَه صيفًا بساطٌ سندسيّ من العشب الأخضر، ترويه الأمطار، ولو مرة في الأسبوع، شأن خاصيّة الجوّ الكندي، لتبقيَه دومًا مخضرًّا. وفي إحدى ثناياه خصّصت البلدية ثلاث مساحاتٍ صغيرة كملاعب للأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين السنتين والعشر. وجهّزت كلًا منها بما يناسب من الهياكل المعدنية يتسلقها أولئك الأطفال ليتزحلقوا بعدها، على الألواح المخصّصة لذلك، نزولًا إلى الأرض المفروشة بالرمل. وهكذا يعيشون لساعاتٍ في أحضان الطبيعة فتخفف تلك الألعاب عن أنفسهم ضغط ذلك المخزون من الطاقة الذي بدأ يتفجر في أجسادهم الصغيرة. وترى أمهاتِهم أو آباءَهم يراقبونهم من على مقاعدهم التي وضعتها البلدية خصّيصًا بالقرب من تلك الملاعب.

فكم تذكرت طفولتي، وأنا أنظر إليهم، حين كنت أتسلّقُ أشجار حديقة منزلنا في جديدة مرجعيون لأقطف ما تيسر من ثمراتها، أتلذّذُ بطعمها الشهيّ، الذي لم تكن بعد قد أفسدته الأسمدة والأدوية الكيماويّة.

يتخلل هذه الحديقة ممراتٌ، ليس فيها الكثير من التعرّج، فُرشت أرضُها بنوع من الحصى الصغير الرمادي اللون، وعلى جوانبها زُرعت بضعة مقاعد من حديد وخشب. وانتصبت على أطرافها وفي بعض ثناياها أشجارٌ وارفةٌ منها ما لا يزيد ارتفاعه عن المترين أو الثلاثة ومنها ما قد يفوق الأربعة عشر مترًا.

من نافذتي أرى على ذلك المقعد شابّين متلاصقين، حينًا يقبّلها وحينًا تقبّله، وأحيانًا يتبادلان أطراف الحديث؛ آهٍ… ليتني أستطيع سماع بعضٍ من كلماتهما فتعود بي الذاكرة إلى سنين عديدة خلتْ، يوم كنا في ريعان الشباب، نفوسنا مملوءة بالحيويّة والتفاؤل بمستقبل واعدٍ. «ألا ليت الشباب يعود يومًا…». وعلى تلك الممرّات أرى رجالًا ونساء من مختلف الأعمار، هذا مسنٌ يتوكأ على عصاه وينقل أقدامًا أتعبتها السنون. وذاك كهلٌ يسير بخطىً حثيثةٍ سعيًا وراء قوةٍ يمدّ بها جسده ليبعد ما استطاع تلك الأيام التي قد تفرض عليه التوكأ على العصي أو القعودَ على كرسيٍّ متحرّكٍ، أو في سريرٍ في إحدى زوايا غرفة قليلًا ما يخرج منها. وذلك شابٌ يهرول أو يركض ليُكسب جسده القوة التي تمدُّه بالحيوية والنشاط.

وقد أترك أنا أيضًا نافذتي وأهبط إلى تلك الحديقة متشبهًا بمن سبقني إليها ولأحرك هاتين الرجلين لعشرين أو ثلاثين دقيقة أعود بعدها إلى كتبي وأوراقي ودفاتري.

كلٌّ منا يفرُّ إلى تلك الحديقة ليبتعد ولو لساعة أو حتى أقل عن ضوضاء المدينة وتجهيزاتها الحديثة التي جعلت أجسادنا تفتقر إلى الكثير من الحركة.

أما عصافير الدُّوري وطيور الحمام والنورس وغيرها فلا تزال تتمتع بما توفّره لها الطبيعة، وها هي تتنقل بين أغصان الشجر وعلى أرض الحديقة لتتقوَّت لساعتها، لا لتجمع أكثر قدرٍ ممكن كما يفعل الإنسان، الذي يجمع حبًّا في الجمع. ولا أنسى ذينك السنجابين يتنطّطان على أرض الحديقة ثم يتسلقان أغصان الشجر سعيًا أيضًا وراء قوت يومهما.

هذه أيام الصيف تتوالى مسرعة ليأتي بعدها فصل الخريف. فإذا جاءت أيّامُه الأولى رأيتَ أوراق الشَّجر تتبدلُ ألوانها، فمنها ما يتحول أخضره إلى الصُّفرة وهذا إلى البرتقاليّ وذاك إلى العنَّابيّ وذلك إلى ما يقارب الأحمر. وقد ترى في الشجرة الواحدة لونين أو ثلاثة أو أكثر. لوحات جميلة خلَّابة رسمتها يد الطبيعة. ثم تبدأ تلك الأوراق تتساقط على أرض الحديقة إلى أن تعرى أغصانُ الشجر تمامًا بانتظار فصل الشتاء. ولكن تبقى هناك بضع شجرات رؤوسها شامخة، شموخ الأرز، تتحدى الفصول الأربعة وتغيّراتها، رافضةً أن تخلع رداءها الأخضر الجميل الذي خصّتها به الطبيعة.

وتذهب أيّام الخريف ويأتي فصل الشتاء، فأراه من نافذتي وكأنّي به يقول للأمطار: كفاكِ أنتِ، فاذهبي وابحثي لكِ عن أرضٍ أخرى بحاجة لأمواهك فقد اشتاقت ثلوجي لهذه الأرض. وتبدأ الثلوج تفترش أرض حديقتي وتتعلق بأغصان شجرها من شدّة الشوق. وما هي سوى أيَّامٍ حتى يختفيَ كليًا ذلك البساط السُّندسي ليحلَّ محلَّه بياضُ الثّلج النّاصع. وإذا بأرض حديقتي تصبح كلّها قطعةً بيضاء واحدة. ولكن قد يحتاج أحدهم أن يجتازها من طرف إلى آخر فيتركَ خلفه آثار أقدامٍ تدلُّ على مسيرته. وقد يثير هذا غضبَ الثّلوج فتعود إلى الهطول لتمحوَ تلك الآثار.

وينتقل عمَّال البلدية من الاعتناء بالحديقة إلى رفع الثُّلوج عن الطُّرق والأرصفة. فتلك آلةٌ كبيرةٌ، أراها من نافذتي، ترفع الثّلج من وسط الجادّة إلى جانبيها، وتلك أخرى صغيرة ترفعه عن الرصيف، وهذه ثالثة تسير، بعدهما، تنقل ما تجمع على جانبي الطريق إلى صندوق شاحنة تسير بجانبها، لتغادرها، بعد امتلاء صندوقها، إلى مكان بعيد مخصَّص لتُفْرغَ فيه حملها، فيتحول سهلُه إلى جبلٍ من أكوامِ الثّلج. وتتوالى الشاحنات بالنَّقل إلى أن ترى الشارع وكأنه لم يزرْهُ سوى القليلِ من تلك الثلوج.

كلّ أولئك الذين كانوا يزورون الحديقة صيفًا، وأنا منهم، قبعوا في منازلهم هربًا من البرد القارس، ليتمتعوا بالدّفء الذي توفّره لهم أجهزة التدفئة الحديثة. ومن يأتي إلى مونتريال زائرًا، صيفًا، لا يمكنه تصوّر قساوة شتائها، ففي شهري تموز وآب ترتفع الحرارة إلى ما يزيد عن الثلاثين درجة مئوية، وقد تصل أحيانًا إلى الأربعين، ثم تنخفض في الشتاء إلى ما دون الأربعين تحت الصفر وقد تصل أحيانًا إلى الخمسة والأربعين أو الخمسين. وهذا الزائر سيَعجَب كيف يستطيع جسد من يعيش في كندا تحمُّل هذا الفرق السنوي الكبير في درجات الحرارة الذي قد يزيد عن الخمسة والثمانين درجة. ولكن لعلَّه يتذكَّر أنَّ خالقَ هذه الأجساد، قد زوَّدها بطاقة تجعلها قادرة على التأقلم في مدة وجيزة، مع أي جوٍّ تحتاج العيش فيه. فسبحانه وتعالى والشّكر له على نعمه.

قد تطول أيام الشتاء لأكثر من أربعةِ أشهرٍ ليعود بعدها فصلُ الرّبيع حاملًا معه نسيمات الدِّفء الأولى، فتغادر الثلوج أغصان الشَّجر وأرض حديقتي، وتبدأ البراعم بالتكوّن، وأوراقُ الشجر بالتفتح صغيرةً. ثم ما هي إلا أيام معدودات حتى تزداد حجمًا تحت أشعة الشمس التي تجعل لونها يتحول من القريب من الأبيض إلى الأخضر الذي سبق وخطفته منها أيّام الخريف.

وكثيرًا ما كان يزور مخيلتي، وأنا واقف أمام نافذتي، طيفُ أولئك الذين كانوا يقطنون، لا في مونتريال فقط، بل أيضا في كندا كلِّها. وكيف كانوا يعيشون قبل هذه التجهيزات والآلات والسَّيارات وغيرها… التي تسهِّل سبل المعيشة في هذه الأيام. إنني أتخيلهم، شتاء، يتنقلون عند الضَّرورة على زحَّافات من الخشب تجرُّها الحيوانات، ويرتدون الثياب المصنوعة من الفراء تغطي أجسادهم بالكامل، فيما عدا العينين، ليتحسّسوا طريقهم سعيًا وراء ما قد يحتاجون إليه من مواد الغذاء. وفي الصيف والخريف أراهم يعملون على جمع المؤن من المواد الغذائية ليقتاتوا بها في الشتاء، وقِطعٍ من الحطب والفحم يشعلونها لتقيَهم برده القارس. كما أتخيّلهم ينامون مع العِشَاء أو بعده بقليل لقلّة سبل الإنارة.

فالحمد والشكر دومًا لله تعالى الذي قسم لنا أن نعيش في هذه الأيام التي يتوفّر لنا فيها الكثير مما يجعل معيشتنا أسهل من معيشة الذين سبقونا.

فيا نافذتي العزيزة لكِ مني المحبة والشّكر على ما وفِّرتِ لي من مشاهد جميلة ومناظر خلابة جعلت بصيرتي ترى ما وراء ما يستطيع بصري أن يراه، وزادتني إيمانًا بعظمة الله خالقي وخالق الأكوان جميعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *