الشيخ أبو علي بشير[1]
ولد الشيخ أبو علي بشير محمد أبو شقرا وعاش في عماطور – الشوف وتُوفِّي فيها في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي.
كان شيخنا وقورًا، طيب القلب، محبًا، حسن الوجه، طويل القامة[2]. وكان من القلائل الذين ميّزهم الله بجسدٍ خارقِ القُوى. ولو قدِّر له أن يمتهن نشاطًا رياضيًا لأصبح من الأبطال العالميين في زمانه، وخصوصًا في رفع الأثقال. ولكنه آثر التوجّه إلى شؤون الدين مترفعًا عن زُخُرف الدنيا. وقد سمعنا، في ريعان شبابنا، من بعض من عاصروه شابًا، رواياتٍ عدة عن قوته الجسدية أذكر منها:
قصّته مع «الإبراهيميّة»
«البارودة الإبراهيميّة» بندقيّة قديمة عرفها اللبنانيون أيام احتلال جيش إبرهيم باشا لسوريا من العام 1832 إلى العام 1840. وكانت هذه البندقيّة طويلةً وثقيلة الوزن بحديدها وخشبها. وقد كان الشيخ أبو علي في الثامنة عشر من سني عمره عندما أمسك بفوهتها بإصبعي يده اليمنى (الإبهام والسبابة) ورفعها، بذراعه الممدودة بموازاة كتفه، وأخذ يديرها يمينًا ويسارًا، تقوله يُحرّك قضيبًا من القصب أو الخيزران لا يزيد وزنه عن مائة غرام. وقد كان ذلك في بلدة المختارة وعلى مرأى من زوارها.
قصّته مع «القيمة»
كان من عادات اللبنانيين القديمة في الأعراس، كما يحصل في أيامنا هذه، أن يذهب العريسُ بموكب، يضم الكثير من أقاربه وأبناء قريته، «لردِّ العروس» أي لإحضارها من منزل والديها إلى منزلها الزوجي. وقبل توفر السيارات وآليات النقل الحديثة كان يتم الانتقال سيرًا على الأقدام، وكانوا يصحبون معهم فرسًا مزينة مجلّلة لتليق بحمل العروس على ظهرها. وكانت أصوات الموكب لا تنقطع عن الزغاريد، والأهازيج، والغناء ذهابًا، وإيابًا. وإذا كانت العروس من غير قرية العريس فكانت العادة تقضي بأن يكون في عداد موكب العريس شخصٌ قوي الجسم يمكنه «شَيْل القَيْمَة». و «الشيل» أي الرفع بلهجة أبناء الجبل، و «القَيْمَة» هذه كانت عبارة عن شيء من حجر ثقيل غالبًا ما يكون «جرن كبّة» أو «مدحلة السطح»، (ومنهم من يقول «محدلة») وهي ما كانوا يرصُّون به أسطح البيوت الترابية في الشتاء لمنع «الدلف»، أي تسرب مياه الأمطار عبر الأسطح إلى داخل المنزل، وكان يتولى إحضار هذه «القيمة» شابٌ من قرية العروس، وبعدما يطرحها أرضًا يعود فيرفعها أمام رفاق العريس، وينتظر أن يخرج من هؤلاء من يستطيع رفع هذه «القيمة» إلى المستوى الذي رفعها فيه ابن قرية العروس أو أعلى، وإذا لم يتمكن أيٌّ من رفاق العريس من «شيل القيمة» كما يجب، تتم «ردَّةُ» العروس من دون الأهازيج والزغاريد وغيرها إلى أن يغادر الموكب، صامتًا، حدود تلك القرية. وكان «شيل القيمة» يتكرر عند مدخل كل قرية أو بلدة قد يمرُّ بها موكب «ردة» العروس، فإذا رُفعت «القيمة» رافق أبناءُ هذه البلدةِ موكبَ العرس بالأغاني والزغاريد حتى حدود بلدتهم، وإذا لم تُرفعْ أكمل ذاك الموكب سيره صامتًا، ومن دون أي مرافقة، إلى ما بعد حدود هذه البلدة.
ويقال بأن الشيخ أبو علي بشير كان السبب في إلغاء عادة «شيل القيمة» هذه في عماطور لأن «القيمة» التي كان يطرحها عجز عن «شيلها» عدة مواكب، فقرر كبار البلدة إلغاء تلك العادة، والتي تلاشت أيضًا مع الأيام من جميع بلدات الجبل.
قصّته مع الثور الهائج[3]
في زيارةٍ له ل «رضيمة اللواء»، إحدى قرى جبل حوران – محافظة السويداء السورية حاليًا- صُودف أن بعضًا من أبناء تلك القرية همُّوا يومًا بذبح ثورٍ في إحدى زوايا ساحتها فقيدوا قوائمه ثم طرحوه أرضًا، ولكن الثور تمكّن من الإفلات من بين أيديهم وانطلق مُسرعًا كالسهم هربًا من سكينهم، وقد حتَّم عليه ضِيقُ مدخل تلك الساحة، أن يمُرَّ أمام منزل أحدهم، حيث كان الشيخ في زيارته. وقد قضت الصُّدف أن يخرج الشيخ أبو عليٍّ من ذلك المنزل في اللحظة عينها التي مرَّ فيها الثور، وإذا بأحد الشبان يتوجه إلى شيخنا، ممازحا، قائلًا بصوتٍ عالٍ: «حَيْلَك عليه يا شيخ بو علي» أي عليك به. وقال الراوي بأنهم رأوا الشيخ أبا عليٍّ يمدُّ يده نحو الثور الذي استمرَّ بالجري، وأنَّ الشيخَ لم يهتز في وقفته، وكأن شيئًا لم يكن. فقال له ذلك الشاب، وكأنه يريد أي يعيِّره، ولكن ممازحًا أيضًا: «ولو هيك يا شيخ ما قدرت توقف الثور؟»[4]، فأجابه الشيخ أبو علي: «شو بعملَّك ذينته ركيكة.»[5] ورفع يده عاليًا وأذن الثور تتدلى من بين أصابعه. لقد اقتلعَتْها يدُ شيخنا من رأس ذلك الثور الهائج تقولُه يقتلع نبتة عشبٍ برية من تربة رُويت للتَّوِّ.
قصّته مع الضرسين
كما أخبرونا بأن الشيخَ أبا عليٍّ كان يخلع الضرس من دون الاستعانة بأيّ آلة خاصة بذلك، بل بإصبعيه، الإبهام والسبابة. ورَوَوا أن أحدهم جاءه يومًا شاكيًا ألمًا من أحد أضراسه ورجاه خلع ذاك الضرس. وبعدما أتمّ الشيخ عملية الخلع، قال له صاحب الضرس: لا يا شيخ الضرس الآخر لا يؤلمني فهو سليمٌ. فأجابه الشيخ: «شو بعملّك علق بظفري»، (ماذا تريدني أن أفعل لقد علق بظفري)؟
فيبدو أن ظفر إبهام شيخنا كان أقوى من أعصاب الضرس السليم فخلع الضرسين معًا.
الشيخ أبو علي يصرع جملًا بيده اليسرى
قد قصَّ عليّ، بعد نشر كتابي «حنين الحب»، أحدُ أحفاده، قريبي نبيل سامي أبو شقرا، الحكاية التالية، قال: كان المرحوم جدّي قد اشترى كمية من الطحين، من أحد التجار وتوافقا على أن يرسلها له، إلى داره في عمّاطور. وفي اليوم التالي وصل إلى دار جدّي جمّالٌ يجرّ بعيرًا على ظهره أكياس الطحين المشتراة. وبعد إنزالها ونقلها إلى غرفة المُؤن، طلب جدّنا من أهل بيته تحضير الطعام للجمّال. وبعد الانتهاء من تناول الطعام، أُحضرت الفواكه كالعادة عند أبناء الجبل. فكان أن تناول جدنا تفاحة لإطعامها للجمل. ولكن، ومن دون أن يعلم أحدٌ السبب، فبدل أن يلتهم الجمل التفاحة، فقد قبض على زند جدي الأيمن بفكيه وراح يرفعه إلى الأعلى. ولكنّ جدنا لم يستسلم لقوة الجمل، بل أدخل أصابع يده اليسرى في منخري الجمل ولفّ يده حول رقبة الجمل. وما ان وصلت قدماه إلى الارض حتى قام بلَيِّ رقبة الجمل بسرعة وقوة غير عادية، فكسرها وسقط الجمل صريعًا. وقد جرى كل هذا في لحظات كوميض البَرْق.
ولما رأى الجمّال بعيرَه، طريحًا لا حراك فيه، راح يبكيه والدموع تنهمر من مقلتيه، كما لو أنه فقد أحد أولاده. كيف لا يبكيه وهو مصدر رزقه هو وعائلته؟
ويضيف الراوي قائلًا: ولكن جدي دفع للجمّال 12 ليرة ذهبًا، تعويضًا له عن خسارته تلك. فأخذها وانصرف شاكرًا.
رحمة الله عليك يا شيخ أبو علي.
[1] حكاية واقعية من روايات الآباء، كنت قد نشرتها في كتابي «حنين الحب». أعيد نشرها بعد إضافة حكاية قتله الجمل بيده اليسرى التي رواها لي حفيده، قريبي نبيل سامي أبو شقرا. وتعديل حكايته مع «الثور الهائج»، بعد التعليق التوضيحي عليها من أقاربنا في السويداء.
[2] ولم يزل خياله يلوح أمام عيني كذكرى راسخة في مخيلتي، وقد كنت في أوائل العقد الثاني من العمر.
[3] وقد علق السيد قاسم الخطيب، بالنصّ التالي: «أؤكّد على ملاحظة العمّ هندي الخطيب بأنّ حادثة الثور الهائج حصلت في ضيعتنا رضيمة اللّواء عندما كان المرحوم أبو علي ابْشير أبو شقرا في زيارة أبناء عمومته في طربا ورضيمة اللّواء..
والحادثة حصلت عندما خرج بالصّدفة من منزل جدّنا المرحوم صالح حمود حسين حمّود خازم أبو شقرا، وكان الثّور يعدو بقوّة فنادَوه كي يعينهم في إمساكه.
قال له المرحوم الشهيد صالح حمود حسين الخطيب: له له يا أبو علي ما قدرت تهدّي الثّور؟؟ فقال أبو علي ابْشير: شو بعملّك إذا ذينتو ما هدّتو؟!!
وهذه القصّة مشهورة ومعروفة لنا جميعًا والجيران كانوا شهودًا عليها.» وآل الخطيب المقيمين في السويداء هم أحد فروع عائلتنا «أبو شقرا- عماطور».
[4] أي أهكذا يا شيخ لم تستطع إيقاف الثور؟
[5] أي ماذا تريدني أن أفعل وأذُن الثور ضعيفة؟