إلى والدي الحبيب في ذكراه الأربعين

سلام الله عليك يا من كنت علّة وجودي في هذه الدنيا.

أربعون عامًا مضين على غيابك عنّا ولم تزل ذكراك حيّةً في صدري وفي عقلي وفي مخيلتي، كأنَّ هذا الغياب قد حصل بالأمس القريب.

لست أدري يا أبي الحبيب إن كانت روحك لم تزل تطّلع على ما يجري في هذه الدنيا أم في بلدنا الذي أطلقوا عليه خطأً صفة: «قطعة من الجنة»؟ أم حتى بيننا نحن أبناءك الذين لم نزلْ ننتشي من تلك السّمعة الطّيبة التي تركتها لنا إرثًا، بين الذين عرفوك؟ فالروح من أمر الله وما أوتينا من العلم إلاّ قليلا.

ولكن هل تدري يا والدي بأنّ الله تعالى قد كرّمك بأن استرجع نفسك إليه راضية مرضية في ذلك اليوم الذي اعتبرناه في حينه يومًا رهيبًا؟

نعم لقد كرّمك فعلًا يوم شاء لعينيك ألاّ تريا هذه الأحداث والأحوال التي لم تزل تعصف بنا منذ ما بعد رحيلك عنا.

إن الإسلام الذي آمنتَ به وزرعته في نفسي دينًا للمحبة والتسامح والتآخي واليسر والتعقل، ابتلي برجالٍ نصّبوا أنفسهم أئمة على أبنائه وغسلوا أدمغة البُسطاء منهم وراحوا يستغلونهم أبشع أنواع الاستغلال خدمة لمآربهم الشخصية ولمصالح الذين وراءهم. لقد بلغ فيهم الاستغلال حد الإجرام فجعلوا من هؤلاء المساكين قنابل موقوتة يفجرونها ساعة يشاؤون، كي يقتلوا الأبرياء أينما وحينما يحلو لأولئك «الأئمة»، حتى وإن كانت ضحاياهم تؤدي الصلوات لخالقهم، لا فرق في المساجد كانوا أم في الكنائس. ثم يسمّونها «عمليات استشهادية» دفاعًا عن هذا الدين الذي هو بريء منهم، براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب.

هؤلاء البسطاء الذين ينفذّون، وللأسف ببراءة المؤمن الموعود بالجنة وبالحور العِين، أوامر أولئك «الأئمة» المختبئين في جحورهم كالفئران، أظهروا للإسلام وجهًا لا علاقة له به، فإذا بالكثير من أبناء الأمم الأخرى أصبحت لديهم قناعة بأن الإسلام والإرهاب صِنوان.

أما الوحدة العربية التي كنتَ من أنصارها، بل من عشاقها، وكنت دومًا ترجو ربك أن يبعث من بين أبناء يعرب قائدًا يزيل تلك الحدود الوهمية التي فرضها الاستعمار بُعيد الحرب العالمية الأولى، فلم تعد يا والدي الحبيب، تذكر على لسان أيٍّ ممن يُسمَّون مسؤولين عن هذه الكيانات العربية، بل على العكس من ذلك فهم يعملون ب«إخلاص»، سواء عن علم مسبق أم عن جهل مطبق، على تفتيت هذه الكيانات المسماة دولًا.

وبذور محبة الأوطان التي كنت، دومًا، تُرويها في حدائق القلوب، جرى تطعيمُ ما أنبتت، وفي بداية نموه، لا كما يُطعِّم المزارعُ الأشجارَ البرّية لتصبح طيبةً مثمرة، بل طُعمت بمطاعيم التفرقة وبأنّ مصلحة الأجنبي أهمُّ من مصالح الوطن وأبنائه. وكي لا تؤثّر عوامل الوطنية الحقّة في براعم هذه المطاعيم، أُلبِستْ أثوابَ الطائفية والمذهبية تحت شعار «تعدد الحضارات والثقافات غنىً»، إلى أن نمت تلك الأشجارُ وأينعت ثمارها فوُزعت على بسطاء العقول وضعاف النفوس لتغذيهم بالتفرقة والكُره والبغضاء بين أبناء البلد الواحد، إلى أن عمّ التقاتل والقتل والتقتيل والتهجير والإجرام بجميع أنواعه وأشكاله وألوانه في لبنان، هذه «القطعة من الجنة»، على مدى خمسة عشر عامًا بدأت بعد غيابك عنا، يا والدي، بنحو السنوات الخمس، وما زلنا حتى يومنا هذا نرزح تحت تلك الأضرار، سواء المعنوية منها أم المادية، التي خلّفتها لنا تلك السنوات العجاف. فكانت النتيجة أن صحّت على اللبنانيين نبوءة المرحوم كمال جنبلاط حين قال عنهم: «قسم يموت وقسم يهاجر وقسم يُجنّ». وقد بلغ بنا الجنون أن تحولت المذاهب الدينية أحزابًا سياسية متنافرة، كي لا أقول جيوشًا متحاربة…

أمّا إن سألتني عن الأخلاق الحميدة التي أنشأتنا عليها وكنت دومًا تنمّيها فينا، فلم يعد لها وجود إلاّ في القليل من نفوس أبناء وطني.

المال أصبح معبود البشر يسعون دائبين للحصول عليه، سالكين جميع السبل وبجميع الوسائل على مبدأ: «الغاية تبرر الوسيلة». فالرشوة، التي كنت تمجُّها، وتحضنا ليس فقط على اجتنابها، بل أيضًا على محاربتها، على الرُّغم من ضآلتها في أيامك، ومن سريتها ومن حياءِ المرتشين والرَّاشين معًا، فقد أصبحت اليوم عامَّة وعلنية يطلبها المرتشون بكل وقاحة ومن غير سقف لقيمتها. وإذا صودف بينهم متعفِّفٌ عنها فترى أقرانه يسمونه: «حمارا».

المحبة والتآخي بين الناس لغير تجارة أو كسب ماديّ، اللتان عملت دوما على نشرهما بين أبناء وطنك، حتى أسست ورعيت طويلًا الجمعيات لهذه الغاية، انقلبتا في هذه الأيام إلى الرياء والمراآة في سبيل الوصول إلى غاياتهم، سواء المادية منها أم المعنوية.

فيا والدي الحبيب، لن أطيل عليك أكثر من هذا إذ بإمكاني أن أكتب المجلدات عن هذه الأوضاع والأحوال المزرية التي نعيش فيها. وأعود لأقول هنيئًا لك في مثواك الأخير لأنك لم ترَ شيئًا من هذا القليل الذي أخبرتك به.

رحمك الله ودامت تعاليمك دستورًا لي ما حييت أنا ابنك الذي لم ينسَ يومًا سؤالَ الباري تعالى أن يزيدك رحمة وغفرانًا.

 

[1] تُوُفِّي في العاشر من شهر تشرين الثاني من عام 1970 رحمة الله عليه. كتبتها في 10/11/2010.