الإعلام وأضاليله

دور الإعلام اليوم لا ينحصر في نقل الأخبار فقط، بل يتعدّاه إلى جميع نواحي الثقافة والمعرفة، والحاجات الإنسانية، وخدمة الأوطان والإنسانية جمعاء، والمحافظة على القيم بجميع أنواعها. فله بالتالي دورٌ توجيهيٌّ عظيمٌ على المجتمعات، ولهذا أيضًا أطلق على الصحافة لقبُ «السلطة الرابعة»[1]، ومع توسع وتنوع وسائل الإعلام، عُمّم هذا اللقب على جميع أنواعه. وهذا ما يجعلني أقول أيضًا، بأنّ من يعمل في الإعلام، هو أشبه بصاحب رسالة إنسانية إلى بني البشر. فإن صدق وأخلص في تأديتها فيكون قد ساهم في صلاح المجتمع، وإلّا فالعكس صحيح.

واقع الإعلام الحالي

تبقى الكلمة أهمّ سُبلِ الإعلام، وكثيرًا ما تكون أخطر من الرصاص. فإن كانت القذيفة قادرة على تهديم مدينة ما، فكتابٌ واحد قادر على تدمير مجتمع بكامله. وإن احتاجت إعادة إعمار المدينة إلى سنة أو اثنتين، فإعادة اللحمة بين أبناء المجتمع الواحد، قد تحتاج إلى مئات السنين.

أمّا واقع الإعلام الحالي وتأثيره، فسأكتفي بالكلام عنه في بلدي الأم لبنان، كمثال عليه في سائر بلاد العالم، مما يصنف تحت عنوان «الإعلام الحرّ». فوسائله، ما عدا تلفزيون لبنان، مملوكة من مؤسسات تجارية، تبغي الربح. وهذا النوع يَكون، بحد ذاته، هدفًا للجهات الداخلية والخارجية، التي تقوم برصد الأموال الضخمة، إمّا لتأسيس أجهزة جديدة، أو لتمويل أجهزة قائمة، أو لشراء الضمائر والنفوس، لتوظيفها في خدمة مصالح تلك الجهات. ولا ننسى الضغط الذي قد يتعرض له الإعلاميّون بوسائل مختلفة، بما فيها التهديد والوعيد بالأذى المعنوي والمادي والجسدي، وتلفيق التُّهم أمام القضاء، لهم ولأقربائهم، وصولا إلى الاغتيال. وقد جرى في لبنان، اغتيال عدد من الصحفيين، أمثال، نسيب المتني (1958)[2]، وكامل مروة (1966)، وسليم اللوزي (1980)، وسمير قصير وجبران التويني (2005).

فلذا أرى الإعلام بالتالي، حرًّا ظاهريًّا، موجّهًا عمليًّا ممن يموّله على قاعدة: «من يعطي يأمر» (Qui donne ordonne)؛ فيُلبسُونه حلّة الحرية والاستقلالية، بينما يكون في الواقع منفّذًا لسياسة من أسسه أو من «اشتراه بكرم تبرعاته»، أو من أرهب العاملين فيه، من جهات خارجية أو داخلية. ولا شكّ في أنّ من يتابع، بدقّةٍ وتجرّدٍ، ما تنشره وسائل الإعلام، في أيامنا هذه، فسيرى بوضوح منهج التضليل (وهو كذب مقنّع) في جُزءٍ كبير من مسيرتها، وبشكل ممنهج، لخدمة أهداف وغايات «حاكميها».

ولذا، يمكنني القول، أن ليس في هذا العالم أجهزة إعلام ٍحرّة، وإن وجدت فقد تكون نادرة.

وأساليب التضليل عديدة ومتنوعة. ولعدم الإطالة، نكتفي منها بما يلي:

استغلال الاكتشافات والاختراعات العلمية والفنية لتشويه الحقائق والوثائق. ومنها «الفوتوشوب»، وبه يسهل التّلاعُبُ بالصُّور واختراعُ المستنداتِ وتَعْتِيقُها إذا لزمَ الأمرُ…

تجاهل أحداث ميدانية، في مختلف شؤون المجتمع. عن طريق تحديد حركة المندوبين والمراسلين، أو عدم السماح بفرصة تصوير الأحداث، أو الاكتفاء بنشر الصور التي تخدم غايات خاصة.

تشويه صورة الأديان، بإظهار أخطاء رجاله، في أقوالهم وأفعالهم، بأنها أخطاء أديانهم.

تبرير الفواحش بحجة حرية التصرف بالجسد. فيصبح اللواط والسحاق، مثلية. والزنا مساكنة. ما يؤدي إلى تدمير العائلة التي هي أساس المجتمع. «مسكينة أنت أيتها الحرية، فكم من الجرائم ترتكب باسمك.»

–  زرع الشكوك في النفوس، كما حصل إبّان نازلة وباء الكورونا، إن لجهة «اختراع» الجرثومة، أو لسلامة العلاج أو خطورته.

تزييف الأحداث التاريخية وتشويهها على النحو الذي يتم عرضه في الأفلام السينمائية، إما خدمة للقصة، أو لغايات تجارية، أو مشبوهة. وأحيانًا يجعلون المشاهِدَ يتعاطف مع المجرمين…

إخفاء أخبار مهمة بإبراز أخبار لا قيمة لها خدمة لأهداف سياسية أو غيرها.

وفيما يلي بعض الأمثلة على ما تمارسه وسائل إعلامية من التضليل، على المستويين العالمي والعربي، وتأثيره:

أولا: على المستوى العالمي بعامّة:

  • استغلال مبادئ حرية الإعلام لمآرب سياسية، أو مادية، أو خدمة لجهات خارجية، أو حزبية، أو غيرها. ولم نزل نذكر كذبة أسلحة الدمار الشامل، التي عممتها الولايات المتحدة الأميركية على وسائل الإعلام، تبريرًا لغزوها العراق في العام 2003.[3]
  • عمل الإعلام الغربي وأتباعه، على إظهار إسرائيل، أنّها الدولة الديمقراطية الوحيدة في محيطنا العربي، وأنّها الضحية، وأنّ الفلسطينيين، إرهابيون ومعتدون، ومعادون للساميّة، التي جُعلت حكرًا على اليهود، على الرغم من أنّ العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، ليسوا ساميّين فقط، بل قد يكونون أقدم منهم على هذه البسيطة. وهل تكون الديمقراطية في اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة[4]؟
  • مثال على طمس الوقائع: حدثني الدكتور محمد كامل ضاهر[5]، قال: إنّ الرئيس بيل كلينتون[6] بدأ خطابًا له، في إحدى المناسبات، بالآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، (الحجرات 13)؛ ولم يكد ينتهي من تلاوتها حتى علا التصفيق الحاد في القاعة. ولما سأله طاقم مكتبه، أجاب بأنّها آية من القرآن الكريم. فنشر الخطاب في اليوم التالي، محذوفًا منه تلك الآية.
  • ويقول الإعلامي المعروف، جهاد الزين: «السياسة لا تصنع التاريخ فقط، في مراحل أخرى هي نفسها التي تُزوِّره… والمحلل السياسي يراوح دائما بين دورَيْ المزوِّر، من دون إدراك في العديد من الأحيان، والساذج، إذا لم يمتلك إرادةَ الانتباه والتوازن والعناد…»[7].

ثانيًا: على مستوى عالمنا العربي بخاصة:

فكما ذكرت سابقًا، سأكتفي بالكلام عن حاله في لبنان فقط. فبالإضافة إلى ما قد ينطبق عليه، مما جاء في الفقرة أولا، السابقة، أذكر ما يلي:

  • تلعب الغايات المادية والميول السياسية والحزبية والطائفية والمذهبية، دورًا أساسيًّا ومهمًّا في طريقة ونوعية نشر وبثِّ الأخبار والبرامج، بما يخدم تلك الغايات، ما قد يصل إلى التحريض على العداوة والتفرقة الدينية والمذهبية والعرقية، وإلى خدمة الفساد والفاسدين والمفسدين، بالتغاضي عن أعمالهم. ومن دون الأخذ بعين الاعتبار تأثير ذلك على سلامة المواطنين والوطن، أمنيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًا وفكريّا، وعلى وحدتهم الوطنية.
  • تعدد وسائل الإعلام في لبنان واختلاف ميولها وأساليبها في بث الخبر، يجعل المتلقي في حيرة للتأكد من صحته وصدقه؛ وهذا ما قد يجعله يميل إلى قبوله من المصدر الذي يتوافق معه في الرأي، حتى ولو كان على خطأ، ما أدّى، ويؤدي إلى تمسك كلّ برأيه، وتغييب العقل عن التمييز بين الخطأ والصواب. وهذا من أسباب شرذمة أبناء البلد الواحد، طوائف وجماعاتٍ متناحرة، وتحكم زعماء الطوائف وأمراء الحرب، في رقابهم ومقدراتهم.

كيف تصاغ الكِذبَةُ بقالب يلبسها ثوب الصدق الخادع

من كثرة ما اطلعتُ عليه من الرسائلِ الكاذبة أو المضللة، فقد اختلقتُ لك، أيها القارئ الكريم، المثال التالي، عن كيفية صنعِ كذبة سهلة التصديق، فيمكنك مثلا أن تنشر ما يلي:

{نشرتْ مجلةُ ساينس أند ناتشر «Science and Nature» خلاصةَ بحثٍ قام به فريقٌ من المتخصِّصين في جامعة بلاتسبورغ الأميركية «Plattsburgh» وعلى رأسهم البروفسور آدم جونس «Adam Johns»، توصَّلوا بنتيجتِه إلى أن علاجَ مرضِ الكبدِ الصفراوي (مثلًا)، هو في الرمّان (أو التين أو البصل… أنت حرٌّ في الاختيار). وللزيادة في الإقناع بأنَّهُ خبرٌ صادقٌ، يُمكنُك أن تُعطيَه سندًا بغلافٍ دينيٍّ مزيّفً، كأنْ تُضيفَ التالي: وقد علَّق على هذا الخبر الشيخُ الفاضلُ طَهَ الأندراوي، وهو من الباحثينَ في الإعجازِ العلميِّ في الإسلامِ والمتابعين للاكتشافاتِ العلميَّة، قائلًا: «سبحانَ منْ ميّزَ نبيَّنا ﷺ بسعةِ العلمِ، إذ روى عمّارُ بنُ إبرهيمَ عن حسَّانِ بنِ خُزاعةَ عن أحمدَ بنِ سعيدٍ عن أبي هُريرَةَ – رضي الله عنه – أنه قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: من أكثَرَ من أكلِ الرُّمَّان أمِنَ الكُبادَ». (والكُبادُ لغةً، مرضُ الكبد). (ولا ضرورة لذكر اسم من أخرج هذا «الحديث»).}

ثم تختمُ خبَركَ هذا بعبارةِ «انشرْه لتعمَّ الفائدةُ، جَزاكَ اللهُ خيرًا». ثم قم بإرساله ب«الواتساب» أو مثيلها إلى عددٍ ممن هم على لائحةِ اتصالاتِك، فسيعيدُ كثيرون إرسالَه، ومن دون أن يتحققوا من صحّتِه، إلى عددٍ من أصدقائهم، ومنهم من سينشرُهُ على «الفيسبوك» أو مثيلاتِها. وقد يحوّلُه بعضُهم إلى شريطٍ سمعيٍّ أو بصريٍّ مُرفِقًا به بعضَ الصُّورِ أو الخُطوطِ المُزخرفة. وقد تكونُ أنت أيضًا ممن سيتلقّونه.}

(انتهى المثال. مع الإشارة إلى أن جميع الأسماء الواردة فيه موضوعة، فيما عدا «أبي هُريرَةَ» أضيف لزيادة الإيهام بالمصداقية). وكما قيل: «اكذب ثم اكذب حتى يصدّقكَ الناس».

وكمثال على انتشار الأخبار الملفّقة، من دون التحقق منها، فقد نشر أحدهم يومًا على موقع الفيسبوك، خبر وفاة المجاهدة الجزائرية، جميلة بو حَيْرَد، وأعاد نشره الكثيرون. وقد كنت، وللأسف، واحدًا منهم لأنني قرأته على صفحة صديقٍ ممن يتمتعون بالمصداقية والرصانة. وبعد علمي بنفيه، سألته، فأجاب: لقد غشّني النص الذي صيغ به النبأ إلى درجة أنني صدقته.

وفي المثل، «إذا أردت أن تقيس درجة تخلّف شعبٍ ما؟ فقم بقياس سرعة انتشار الإشاعة في أوساط مواطنيه.»

وهذا غيضٌ من فيض الأضاليل المبتدعة.

ويبقى الخطرُ في أنْ تتحولَ بعضُ الأخبارِ المُختلقَةِ إلى مراجعَ يستندُ إليها بعضُ الكُتَّابِ، إمَّا عن غيرِ معرفةٍ بصحتها أو إذا ما رأوا فيها ما يدعمُ نظريَّتهم؛ فالمُحرِّك «غوغل» سيحفظُها ويزودُهم بها بكلِّ سهولة. فيُساهم هؤلاء الكُتَّاب في تشويهِ الحقائق، عن قصدٍ أو عن غير قصد.

هذا ولا يكادُ ينقضي يومٌ تقريبًا من دونِ أن يصلَ إلى عُلبِ حساباتي، في وسائل الاتصال والتواصل، ولو رسالة واحدة من هذه الرسائل، كأنَّ عقولَ البشرِ وسيلةُ لهوٍ أو تسليةٍ أو لعبٍ. حتى أنّه قد جاءني، من أمثالها، بضعٌ فيها تشكيكٌ في عُروبةِ القرآن الكريمِ وبصيغٍ مختلفةٍ، تزعُمُ بأنه يحتوي على كلماتٍ عديدةٍ من أصلٍ سريانيٍّ أو غيره. وقد بلغ بأحدهم أن حدَّدَ عددها بألفٍ ومائة وأربع وستين كلمةً؛ مُستخفِّين بعقول نحوٍ من ملياري مسلمٍ في العالم يُؤمنون بعروبته: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف 2). ﴿وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ (النحل 103).

ختامًا أقول، ما دامت وسائل الإعلام، بمعظمها، إن لم نقل بأجمعها، ليس لديها الحرية الكافية لتعطيها الاستقلالية في عملها، فهناك صعوبة، إن لم نقل استحالة، لوضع إيّ حلٍّ أو حلولٍ موضع التنفيذ لهذه المعضلة المدمِّرة. فالعقبات والصعوبات أمام الحلول، عديدة جدًّا، أهمّها تحول الكرة الأرضية إلى قرية واحدة، وتعدد الدول والصراعات فيما بينها. وتحكم الدول الكبرى بمصائر الشعوب، وبما يسمى منظمة الأمم المتحدة. واستغلالها لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة و… وتعدد وسائل الإعلام في كل دولة وفي العالم أجمع، لدرجة استحالة إحصائها. وتحكم الدول وأصحاب المال والأعمال والمنظمات العنصرية وغيرها، بقطاع الإعلام العالمي عامة، بما فيها السينما، كلها أمور تشكل عقبات عظيمة أمام تنفيذ إيّ حلٍّ لا يتناسب مع أهداف وغايات أولئك المتحكمين بالإعلام العالمي.

 

مونتريال – كندا 10/9/2024

 

أسامة كامل أبو شقرا

 

 

نشر هذا البحث على صفحات مجلة «همس الحوار» اللندنية، العدد – 26 – تشرين أول / أكتوبر 2024

الإعلام وأضاليله

 

[1] ساهم المؤرخ توماس كارليل في إشهار المصطلح وذلك في كتابه “الأبطال وعبادة البطل” (1841) حين اقتبس عبارات للمفكر الإيرلندي إدموند بيرك.

[2] صاحب جريدة التلغراف، وقد كان اغتياله شرارة أحداث دامية امتدت لأكثر من ستة أشهر.

[3] فلو كانت متأكدة من وجود تلك الأسلحة، فهل كانت ستعرض جنودها لخطرها؟

[4] اغتالتها القوات الصهيونية، وهي تقوم بعملها في جينين، يوم 11/5/2022.

[5] سفير لبناني سابق.

[6] رئيس الولايات المتحدة في حينه

[7] كتاب المهنة الآثمة – نقد تجربتي في الكتابة السياسية.