هل نحن حقًّا أحرار؟
نتغنى بأنّنا نعيش في القرن الواحد والعشرين، وأنّ الحضارةَ قد بلغت أوجَها، والعلمَ قد بلغ قِمّتَه، وأنّ حقوقَ الإنسان مَصونَة، تحميها شِرعةٌ دُوليّة أقرّتها جمعية الأمم المتحدة التي تضمُّ جميع دول العالم وعلى رأسها الدول العظمى. هذه الشّرعة التي تُقِرُّ بأنّ لكُلِّ إنسان، من ذكر وأنثى، الحقَّ بحُرّيّة الرأي والمعتقد والتّعبير والتّنقل والانتقال… فهل نحنُ حقًّا أحرار؟
لا أحد يُنكرُ أنّ الاكتشافات والاختراعات والتّقنيّات الحديثةَ الّتي تنعمُ بها البشريّة في عصرنا هذا، وبخاصة في حقل الاتّصالات، قد جعلت العالم بجهاته الأربع قرية واحدة، وقد سهَّلت كثيرًا سُبُل عيشنا بجميع نواحيها. ولكنْ بقدرِ ما يسّرت لنا من أمورٍ ووفرت من وقتٍ وقدمت من رفاهيةٍ، فإنّي أشعرُ بأنّ هذه الاختراعات قد حدّت من حُرّيتي وكشفت الكثيرَ من خصوصيّاتي.
فإذا ما سدّدتُ، بواسطة بطاقة الائتمان، ثمن ما قد أشتريه من أيٍّ من المحلات التّجارية فستُصبح معلوماتي الشّخصيّة بمتناول المؤسّسة الماليّة التي أصدرت تلك البطاقة ومنها إلى أجهزة السّلطة، كذلك الأصنافُ التي اشتريتها بكميّاتها وأنواعها وأثمانها. فأين أصبحت خصوصيّاتي؟
وكُلُّ كلمةٍ من محادثاتي الهاتفية، سواء عبر الهاتف المحمول أم الأرضيّ أم بواسطة مواقع الإنترنيت، تُسجّل بالحرف والدّقيقة والثّانية في الأجهزة المشغِّلة لهذه الهواتف. فأَصبح، بالتالي مكشوفًا ومسجّلاً كلّ ما أُرسلُه أو أتلقاه من رسائل وبأيّ وسيلةٍ كانت، سواء عن طريق الإنترنيت أم مواقع التّواصل الاجتماعيّ أم الهاتف المحمول، بالتاريخ والساعة والدقيقة والثانية. فأين أصبحت حُرّيّة القولِ والتعبير؟
وما دام هاتفي المحمول بحوزتي، حتى ولو كان مُطفأً، فستعلمُ الأجهزة مكانَ وجودي (إلّا إذا نزعت منه البطارية). كذلك إذا تنقلتُ بالسيارة مشغّلًا جهاز دليل الطرق (G.P.S) فكلُّ مكانٍ أعبره أو أتوقف فيه بإمكان الأجهزة تحديده. والسَّفرُ جوًّا تكشفُ تفاصيلَه أيضًا بطاقةُ ركوبِ الطّائرة. فأين حُرّيّة التنقل؟
ثم منذ متى أصبح مصمِّمو التّطبيقات على الهواتف الذكية، وبخاصّة تطبيقات الألعاب المجّانيّة، جمعيّاتٍ خيريّةً كي توزّعها علينا بالمجّان؟ فلماذا إذًا يشترطُون السّماحَ لهم بالدّخولِ إلى البيانات الشّخصية والموقع بما فيه الصّور…؟ أليس هذا بالتأكيد لغاية في نفس يعقوب؟ ألمْ يخطُر ببالِ أحدِنا بأن يكون وراء هذه التطبيقات من يصطادُ العناوين ليبيعها بدوره من شركات التّسويق؟ فمن أين تحصلُ الشّركاتُ، التي ليس بيني وبينها أيّ تعاملٍ، على عنواني الإليكتروني كي تُغرقني بإعلاناتها اليوميّة أو الأسبوعيّة؟ ولا ننسى تلك الشركات التي تعرضُ علينا أن نحفظَ لديها، مجّانًا، مدوناتِنا حرصًا «منهم» على ألّا يلحقَ بها اذًى من جرّاء عطلٍ تقنيٍّ او تسهيلا لنا في الوصول إليها من أي جهازٍ آخر، أو عند شرائنا جهازًا جديدًا. «اللهمّ زدنا من فاعلي الخيرِ».
وآلاتُ التّصويرِ المنصُوبةُ على الطرقات هنا وهناك، لا تسجّل تحرّكاتي فقط بل تكشفُ أيضًا من قد يكون برفقتي أو من التقيته أو حادثته. حتى في مسكني لستُ آمنًا من أجهزةِ التّنصّت أو التّصوير ألَّا تُسجّل ما قد أقولُه أو أفعله. فقد تحقّق ما كان يتخوّف منه مواطنو الدّولِ ذات الأنظمة الدِّكتاتوريّة البوليسيّة، إذ أمسى «للجدران آذانٌ»، كما كانوا يقولون. فأين حرّيّتي الشّخصيّة؟
أنا لا أُنكِرُ أنّ على الدّولة السّهرَ على الأمن العام، فأمني وأمنُ كلِّ مواطنٍ، هو من أمن المجتمع، ولكنْ من يضمنُ لي بألاّ يقع ولو بعضُ خصوصيّاتي، أو خصوصيّات فتيات بريئات، في يدِ أحدِ ضُعفاء النّفوس أو المستغلّين من العاملين على الأجهزة المختصّة، ليبتزّ كلًّا بما قد يُؤذيه؟ كما أنّي لمجرد الشّعور بأنّي قد أكون مراقبًا، في كلامي أو تنقلاتي أو في مسكني، فسيتملّكني أسى الحدِّ من حرّيّتي.
ولا أنسى ما حرمتنا منه تلك التّقنياتُ وأجهزتُها من علاقات اجتماعية كانت تربطُ بيننا كأهلٍ وأقارب وجيرانٍ وأصدقاء.
وعلى الرُّغمِ ممّا سهّلت لي هذه الاختراعاتُ الحديثةُ معيشتي، وعلى الرُّغمِ من أنّها باتتْ من الضّروريّات في حياتنا اليومية، فقد بدأت أمقُتُها. وكم تمنيّتُ أن يعودَ بي الزّمنُ سنواتٍ عديدةً إلى ما قبل هذه الرّفاهِيَة، ولو لساعاتٍ قليلاتٍ، مع كلِّ ما كان في تلك الأيام من قساوة العيش، كي أتمتّعَ ببضعِ لحظاتٍ من الشُعورِ بحرّيّتي الشّخصيّة.
أليست حُرّيّة الإنسان أسمى وأثمن ما في الوجود؟
[1] نشر هذا المقال على صفحات جريدة الرسالة – كندا العدد 430 تاريخ 25/1/2019.