نساء بلادي وحضارة الأزياء
خلعت النقاب عن وجهها وقالت: أريد أن أرى النور كما أعطانيه ربي. فقلنا لا خطيئة، بل ولا ضير في ذلك، فالمرأة لا تضع النقاب على وجهها وهي مُحرِمة، إبّان قيامها بمناسك الحجّ أو العمرة. ثم رفعت الغطاء عن رأسها تاركة لشعرها حرية التمتع بنور الشمس ودفئها وللنسيم أن يتغلغل بين خصلاته. فقلنا لم لا؟
بعد ذلك أخذت تُدخل بعض التعديلات على أزيائها ولكنّها لم تتخلَّ عن الحشمة. كما لم تأبه لاعتراض بعض الرجال. في البدء كانت تلك التعديلات تسير ببطء. ثم أخذت تسارع الخطى بالوتيرة نفسها التي كان يسير بها تطور قطاع الاتصالات. فبدأت تصلها، متسارعة، أوامر «سلاطين الحضارة» المتربعين في بيوتات الأزياء في باريس ولندن وميلانو. وراحت هي تمتثل لأوامر أولئك «السلاطين» بحجة السير في ركب «الحضارة» الآتية إلينا من الغرب.
فكشفت عن زنديها ثم عن ذراعيها، وهي تقول، بلسانها، من دون قلبها: أيها الرجل اتقِ الله ولا تنظر إلى بنظراتك الغريزية…
وباسم الحرية، التي حصلت عليها مما سمي «بالثورة الجنسية» في الستينيّات من القرن العشرين، أصدر «السلاطين» أوامرهم، إلى أتباعهم من نساء العالم، في البدء بتقصير التنانير شيئًا فشيئًا، إلى أن أوجبوا أن تعلو كفّتها السفلى عن الركبة بما لا يقل عن السنتيمترات الخمسة، وامتثلت المرأة في بلادي إلى تلك الأوامر، وكالعادة من دون أي اعتراض، وهي تقول بلسانها… أيضًا: أيها الرجل اتقِ الله وغضّ الطرف…
ثم استمرت الأوامر سريعة بوجوب الكشف عن الكتفين ثم الظهر ثم ما تيسر من الفخذين ثم… وهي تقول، بلسانها…فقط: أيها الرجل، ما أكشف عنه من جسدي هو لي أنا ولحريتي وليس لك فيه أيّ حق…
وعلى الرّغم من أنّ ما بقي مستورًا من الجسم لم يعد يشكل أحيانًا ربعه أو حتى أقل، فهي لم تكن تنفكّ عن السؤال قائلة: لماذا أنت هكذا أيها الرجل، لمَ لا تمتنع عن إلقاء النظرات غير البريئة على مفاتننا؟ فما نحن إلا «مأمورات» من قبل «سلاطين الحضارة». وما نظراتك تلك إلا مما لا يمكن أن يقال عنها سوى أنها من قبيل «تخلفك عن ركب الحضارة». ولا تنسَ «أن النظرة الأولى لك والثانية عليك».
بالله عليكن أيتها السيدات والآنسات، هل تعتقدن أن جميع رجال هذا العصر هم من أمثال النبي يوسف، عليه السلام؟ أم هل تركتنّ لنا النظرة الأولى؟ فنحن أينما التفتنا كانت نظرتنا هي الثانية أو الثالثة أو أكثر؟
وأخيرًا وليس آخرًا، وصلت الأوامر من «السلاطين» بأن يكون السراويل[2] ضيقًا جدًا، وخصره منخفضًا (خصر واطي)، والقميص فوقه قصيرًا بحيث ترتفع كفته عن كفة السراويل بما لا يقل عن السنتيمترات الخمسة، كي ينكشف جزء غير يسير من البطن والظهر. وإذا ما انحنت إحداهن إلى الأمام زادت تلك المساحة المنكشفة من الجسد حتى يكاد، أحيانًا، أن ينكشف جزءٌ مما يغطيه اللباس الداخلي، وهي لا تأبه لما يجري، لأنها «متحضرة»، وما أن يستقيم جسدُها ثانية حتى تراها ترفع سراويلها بحياء وخفر، وكأنها تخشى من أن يقال بأنها تخالف قواعد وقوانين «الحضارة».
اطمئني سيدتي، فلن تشعري بعينيّ ترمقك بأي نوع من النظرات، ما دمت ترتدين ثيابًا كهذه، فأنا سأمتثل لأوامرك، ولكن لا تظنّي بأنها تقوًى منّي أو تعففٌ، بل رحمة ورأفة بي أنا لأجنب نفسي من الشعور بالاشمئزاز أو حتى الغثيان من رؤية ذلك اللحم المترهل يتدلى من البطون بابتذال، من فوق خصر السراويل، أو أرى تلك الأرداف المنتفخة تصارع قماش السراويل! فمن سيكون المنتصر؟ هل سيتمكن القماش من الصمّود في وجه ضغط الأرداف؟ أم تكون هذه أقدرَ على تمزيق ذلك القماش؟
فعذرًا سيدتي، إن كنت قد شوهت ولو بعضًا من جمال ذلك الجسد الذي كنّا نقدس، أو كنتُ قد تجرأتُ على نقد ما أوصلتنا إليه معايير «الحضارة» في عصرنا هذا، فأنت التي شرعت لنا ذلك، وأنا لم أجد تعبيرًا أرقّ أو ألطف.
أما أنتن أيتها السيدات «المتخلفات عن ركب تلك الحضارة» فأستميحكن عذرًا إذا كان في كلامي شيءٌ من الشمولية غير المقصودة، وأنا على يقينٍ من أنّكنّ لستنّ موافقات على ذلك التجرّوءِ المبتذل على اقتحام حرمة جسد المرأة وتجريده من أنوثته، ذلك الجسد الذي يحاول بعضهم جعله من أرخصِ السلع وأبخسها ثمنًا. إذ كم لمست منكن ذلك الاشمئزاز كلما ظهرت على شاشات التلفزة سيدة من تلك اللواتي تسمين أنفسهن «متحضرات».
فيا أمهاتِ اليوم وأمهاتِ الغد «المتحضرات»، أنا لا أقول لكنّ عُدن إلى ما كانت عليه نساء العصور الوسطى من الجهل والتخلف. بل رأفة ورحمة بنا وبحق الأمومة والأنوثة اللتين نحترم ونجلّ، أرجوكن أن تُعِدن لأزيائكنّ ولو بعضًا من الحشمة. وبالله عليكنّ، فليكن ما نرتشفه من الغرب محصورًا في اكتشافات أهله العلميّة النافعة. أما قواعد السلوك والأخلاق فبلادنا منبعها. ولتكن لكنّ شخصيةٌ قادرة على مفاخرة نساء العالم أجمع بما لدينا من القيم الدينية والأخلاقية. فالحضارة الحقيقية ولدت وترعرعت وتطورت في بلادنا، قبل أن يكون هناك في الغرب مجتمعات مدنيّة. ولنُعِدْ، مجتمعين، لبلادنا مجدَ أجدادنا الذين صدّروا الحرف والقيم والحضارة، إلى أهل تلك الأمصار التي نستورد نحن اليوم منها ما يسمى خطأً ب «الحضارة».
[1] نشرت في جريدة النهار العدد 21993 يوم الاثنين في 21/6/2004.
[2] سراويل كلمة مفردة على رغم كونها على وزن إحدى صيغ جمع التكسير، وهي تجمع على سراويلات.