شارع الحمراء
في عصرِ يومِ أحدٍ من أواخرِ سِتينيّاتِ القرنِ الماضي، كنَّا، أنا وصديقي سمير، نتنقلُ بين مداخلِ صالاتِ السينما في ساحةِ الشُّهداءِ نبحثُ عن فيلمٍ يثيرُ فينا رغبةَ المشاهدةِ. وكنَّا يومَها لم نزلْ عازبَين وفي أواخرِ العقدِ الثالثِ من سنواتِ العمرِ.
ولمَّا لم نجِدْ ضالتَنا قال سمير: لِمَ لا نذهبُ إلى شارعِ الحمراءِ؟
قلتُ: وما عَسانَا نفعلُ هناك؟
قال: نتنزَّهُ على أرصفتِهِ ونشمُّ رائحةَ الصابونِ.
بدأ نجمُ شارعِ الحمراءِ يتلألأُ في سماءِ بيروتَ إثرَ أحداثٍ أمنيّةٍ، عمَّت الكثيرَ من أنحاءِ لبنانَ لنحوِ الأشهرِ الستةِ في العامِ 1958، بينما بقِيتْ بعيدةً عن ذاك الشارعِ. كما عزَّزتْ مكانتَهُ نهضةٌ عُمرانيّةً، حتى احتلَّ صدارةَ شوارعِ عاصمةِ لبنان. إلى أنْ صارَ ذا شُهرةٍ عالميَّةٍ، حتى أصبحَ يقال: «من زارَ بيروتَ ولم تطأْ قدماهُ شارعَ الحمراءِ، كمن زارَ روما ولم يعرِّجْ فيها على شارِعِ (الڤيا ڤينيتو)». فقد تشابه الشَّارِعان بقِصرهِما وبمحلاتِهِما التجاريَّةِ الراقيةِ وبالمطاعِمِ والفنادقِ الفخمةِ وبمقاهِي الأرصِفةِ على الطريقةِ الغربيّةِ. كذلك فُتِحَت صالاتُ السينما الحديثةُ في أرجاءِ شارعِنا، وراحَتْ تستقطِبُ الكثيرين من روَّادِ صالاتِ ساحةِ الشهداءِ. كما اتّخذَ العديدُ من الأجانبِ العاملِين في الجامعةِ الأميركيَّةِ والشركاتِ الأجنبيّةِ، مساكنَ لهم فيهِ وفي سائرِ أنحاءِ راسِ بيروتَ، واختلطوا بسكَّانها اللبنانيّين وبمن أتاها من أحياءِ بيروتَ الأُخرى، وبالسّائحِين من البلادِ العربيّةِ والأجنبيّةِ، فشكّلَ الجميعُ خليطًا من البشرِ المتعدّدِي الثقافاتِ واللغاتِ والأعراقِ. واستمرَّ هذا الشارعُ على هذه الحالِ حتى بِدايةِ ما سُمّي بالحربِ الأهليّةِ في العام 1975، ليتحولَ بعدهُ، مرتعًا لبعضِ «المليشياتِ» المتقاتلةِ في تلك الحربِ اللعينةِ.
لم تكنْ مقولةُ صديقِي سميرٍ، يومها عن «رائحةِ الصابونِ»، كلامًا عبثيًّا. فمُولِّداتُ الكهرباءِ العاملةُ على المازوتِ، والمنتشرةُ اليومَ عشوائيًّا في أبنيةِ وزوَايا أحياءِ بيروتَ جميعِها، بل وفي لبنانَ أجمع، لم يكنْ لها أيُّ وجودٍ في تلكِ الحقبةِ من الزمنِ. والكثافةُ السُّكانيَّةُ لم تكنْ تبلغُ يومَها ربعَ ما هي عليهِ اليوم، والحالُ كذلك بالنسبةِ إلى عددِ السياراتِ.
وقد كان ذلك النّهارُ من أواخرِ أيامِ فصلِ الربيعِ، حيثُ كانت حرارةُ الجوِّ فيهِ قد تخلصَتْ كليًّا من برودةِ الشّتاءِ ولم تبلغْ بعدُ أُولى درجاتِ حرِّ الصيفِ. والعائلاتُ التي اعتادت الاصْطيافَ في جبالِ لبنانَ، كانتْ لم تزلْ بعدُ في مساكنِها البيروتيَّةِ. وكانَ شبابُ وشابَّاتُ أحياءِ بيروتَ يقصدونَ شارعَ الحمراءِ في مثلِ ذلك اليومِ، سواءٌ للتنزُّهِ أم التسكُّعِ أم التسوُّقِ من بضائعِهِ الفاخرةِ. أما الحسناواتُ فكُنَّ يرتدينَ ثيابًا من أحدثِ تصاميمِ بيوتِ الأزياءِ العالميةِ، وكانت روائِحُ النظافةِ الممتزجةِ بأريجِ العطورِ الباريسيَّةِ، تفوحُ من فساتينهنَّ وأجسادِهنَّ التي تقولُها قد خرجتْ للتّوِّ من بين فقاعاتِ رغوةِ صابونِ الحمَّامِ المختلف الروائحِ. وخلوُّ الجوِّ مما قد يُعيقُ انتشارَ تلك الروائحِ العطِرةِ، كان يُتيحُ لأنوفِ المتنزِّهين التمتعَ بأريجِها.
ولم يكنْ يقتصرُ دورُ شارعِ الحمراءِ على التنزُّهِ والترفيهِ والتسوقِ فقط، بل شكَّلَ أيضًا مِحجًّا لرجالِ الفكرِ من شعراء وأدباء وإعلاميين وغيرِهم، يتلاقَون مجموعاتٍ، كلٌّ منها في مقهًى، تقولُهُم قد استملكوا بعضَ طاولاتِه، وكانَ «الهورس شو» أشهرَ تلك المقاهي. وكم قيل عن شعراء وأدباء بأنهم لم يعرفوا من بيروتَ سوى شارعِ الحمراء.
ولا ننسى أن إحدى أوائلِ عملياتِ مقاومةِ الاحتلالِ الإسرائيليِّ، في العام 1982، انطلقتْ من «الويمبي»، وهو أيضًا من أشهر مقاهي ذلك الشارع. فبيروتُ هي العاصمةُ العربيّةُ الوحيدةُ التي تجرَّعت سُمَّ الاحتلالِ يومَ تخلَّى عنها العالمُ أجمعُ، بعدما كانتْ لؤلؤةَ الشرقِ وقِبلة السّائحين. أمّا اليوم فقد تحولَ الكثيرُ من تلك المقاهي إلى محلاتٍ تجاريةٍ. كذلك أقفِلَتْ دُورُ السينما نهائيًّا.
أجل لقد كانت سنوات عزِّ هذا الشارع، على قِلّة عددها، من أجملِ السنواتِ التي عاشها أبناءُ جيلنا.
فيا ربَّ السمواتِ والأرضِ، أدعوكَ وأسألك أن تحقِّقَ أمانينا في أن تكونَ سنواتُ أعمارِ أبنائِنا وأحفادِنا وذريَّاتِهم، جميعُها أفضلَ من سنواتنا تلك، وأن يعيشُوا بسلامٍ وأمنٍ وأمانٍ وطمأنينةٍ.
اللهمَّ استجبْ دُعائي يا سميعُ ويا مجيبَ الدُّعاء.
[1] كتبت هذا المقال في 24 نيسان 2016 ونشر في العدد 420 من جريدة الرسالة – مونتريال تاريخ 27/7/2018.