الكِذبَةُ «الصادقةُ»
منذ ان أصبح بمتناولِ أيٍّ من الناسِ أن يستفيدَ من خدمات الشَّبكةِ العنكبوتيَّةِ (الإنترنيت)، أخذَ العالمُ يتجهُ صِغَرًا. فالخبرُ الذي كانَ يحتاجُ إلى يومين أو أكثر ليبلغَ مسامعَ أبناءِ قريةٍ صغيرةٍ مُتناقَلًا من الفمِ إلى الأذنِ، أصبحَ اليومَ لا يحتاجُ سوى إلى بضعِ دقائق لكتابته أو بضعِ ثوانٍ، لبثه قولًا أو شريطًا مصورًا، على وسائل الاتصالِ والتواصُلِ ليتنقّل بين أقاصي المعمورة التي أصبحت اليوم وكأنها قريةٌ واحدةٌ.
وكما أنَّ لكلِّ اكتشافٍ أو اختراعٍ جديدٍ حسناتِه وسيئاتِه، فكذلك هي حالُ وسائلِ الاتصالِ والتواصلِ الاجتماعيِّ. وسأكتفي، في هذه المقالةِ، بالكلامِ عن واحدةِ من سيئات هذه الوسائل، عنيتُ انتشارَ الأخبارِ الكاذِبةِ التي يبثُّها أصحابُ الغاياتِ السيئة، أو من يصيغونَها على سبيل الفُكاهةِ او التَّسليةِ، بعد أنْ يتفَنَّنُوا في صِياغتها فيُصدِّقُها الكثيرون ممن يتلقونَها على حساباتِهم في تلك «الوسائل».
ومن كثرة ما اطلعتُ عليه من تلك الرسائلِ اختلقتُ هذا المثال، عن كيفيةِ صُنعِ كذبةٍ شبه «صادقة»، أو سهلٌ أن تصدَّقَ، فتقول:
نشرتْ مجلةُ ساينس أند ناتشر «Science and Nature» خلاصةَ بحثٍ قام به فريقٌ من المتخصِّصين في جامعة بلاتسبورغ الأميركية «Plattsburgh» وعلى رأسهم البروفسور آدم جونس «Adam Johns»، توصَّلوا بنتيجتِه إلى أن علاجَ مرضِ الكبدِ الصفراوي (مثلًا)، هو في الرمّان (أو التين أو البصل… أنت حرٌّ في الاختيار). وللزيادة في الإقناع بأنَّهُ خبرٌ صادقٌ، يُمكنُك أن تُعطيَه سندًا بغلافٍ دينيٍّ مزيّفً، كأنْ تُضيفَ التالي: وقد علَّق على هذا الخبر الشيخُ الفاضلُ طَهَ الأندراوي، وهو من الباحثينَ في الإعجازِ العلميِّ في الإسلامِ والمتابعين للاكتشافاتِ العلميَّة، قائلًا: «سبحانَ منْ ميّزَ نبيَّنا ﷺ بسعةِ العلمِ، إذ روى عمّارُ بنُ إبرهيمَ عن حسَّانِ بنِ خُزاعةَ عن أحمدَ بنِ سعيدٍ عن أبي هُريرَةَ – رضي الله عنه- أنه قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: من أكثَرَ من أكلِ الرُّمَّان أمِنَ الكُبادَ». (والكُبادُ لغةً، مرضُ الكبد). (ولا ضرورة لذكر اسم من أخرج هذا «الحديث»). ثم تختمُ خبَركَ هذا بعبارةِ «انشرْها لتعمَّ الفائدةُ، جَزاكَ اللهُ خيرًا». ثم قم بإرساله ب«الواتساب» أو مثيلها إلى عددٍ ممن هم على لائحةِ اتصالاتِك، فسيعيدُ كثيرون إرسالَه، ومن دون أن يتحققوا من صحّتِه، إلى عددٍ من أصدقائهم، ومنهم من سينشرُهُ على «الفيسبوك» أو مثيلاتِها. وقد يحوّلُه بعضُهم إلى شريطٍ سمعيٍّ أو بصريٍّ مُرفِقًا به بعضَ الصُّورِ أو الخُطوطِ المُزخرفة. وقد تكونُ أنت أيضًا ممن سيتلقّونه. (انتهى المثال. مع الإشارة إلى أن جميع الأسماء الواردة فيه وهميّة فيما عدا «أبي هُريرَةَ»).
ولا ننسى ما يُمكن لبرامج «الفوتوشوب» أن تُساعدَ في التّلاعُبِ بالصُّور واختراعِ المستنداتِ وتَعْتِيقِها إذا لزمَ الأمرُ. والخطرُ في أنْ تتحولَ بعضُ هذه الأخبارِ المُختلقَةِ إلى مراجعَ يستندُ إليها بعضُ الكُتَّابِ، إمَّا عن غيرِ معرفةٍ بصحتها أو إذا ما رأوا فيها ما يدعمُ نظريَّتهم؛ فالمُحرِّك «غوغل» سيحفظُها ويزودُهم بها بكلِّ سهولة. فيُساهم هؤلاء الكُتَّاب في تشويهِ الحقائق، عن قصدٍ أو عن غير قصد.
هذا ولا يكادُ ينقضي يومٌ تقريبًا من دونِ أن يصلَ إلى عُلبِ حساباتي، في وسائل الاتصال والتواصل، ولو رسالة واحدة من هذه الرسائل، كأنَّ عقولَ البشرِ وسيلةُ لهوٍ أو تسليةٍ أو لعبٍ. حتى أنه قد جاءني، من أمثالها، بضعٌ فيها تشكيكٌ في عُروبةِ القرآن الكريمِ وبصيغٍ مختلفةٍ، تزعُمُ بأنه يحتوي على كلماتٍ عديدةٍ من أصلٍ سريانيٍّ. وقد بلغ بأحدهم أن حدَّدَ عددها بألفٍ ومائتين وأربعين كلمةً؛ مُستخفِّين بعقول نحو مليار ونصف مليار مسلمٍ في العالم يُؤمنون بعروبته من قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف 2). {وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل 103).
لقد نسيَ أو تناسى مصطنِعو هذا الخبر أنَّ اللغة العربية من أغنى، إنْ لم نقُلْ أغنى وأوسعُ لغاتِ العالم، فإذا كانت أغنى اللغات، عدا العربية، تحتوي على نحو أربعة آلاف جذرٍ لغويٍّ ففي العربية نحو ستة عشر ألفًا، ويضاعفُ سعتَها هذه التفعيلُ والاشتقاقُ والتركيبُ. وهذا الزعمُ في أنَّ العربيةَ استعارت كلماتٍ من السّريانية يشبهُ القولَ بأنّ بِل غايت (Bill Gate) استدان بعضَ المالِ من أحدِ صغار أغنياء العالم.
هذا ويقول المستشرق أولسهاوزن (Olshausen) في مقدمةِ كتابِه عن اللغة العبرية: «إنَّ أقرب اللغات السّاميّة إلى اللغة السّاميّة الأمّ، أي القديمة، هي اللغةُ العربيةُ.»
وقد وضعت الدكتورة تحيَّة عبد العزيز إسماعيل كتابًا باللغة الإنجليزية عنوانه يبين مضمونَه: «العربية الفصحى جدّةُ اللغات الهندو أوروبية وأصلُ الكلام».
كما توصّل مُحمدُ عبد الله آل الأشرف، في بحثِه بعنوان (نشأة اللغة العربية، وهل هي أقدم اللغات؟)، إلى أنَّهُ «يمكن أن يصلَ تقديرُ عمرِ اللغة العربية إلى أكثر من 150 قرنا». كما يُضيفُ «بأنَّ جزيرةَ العربِ مهدُ القبائلِ السّاميَّةِ وأنَّ اللغة العربية حافظت على خصائص اللغةِ السّاميّة الأمّ حتى كادت أن تكون إيّاها.»
ومما يؤسف له أنّ نزعة الشّرِّ في نفوس بعضِ البشرِ، تجعلُهم يتفننون في ارتكاب الجرائمِ بجميعِ أشكالِها وبوسائل مختلفة بحقِّ الإنسانيةِ جمعاء، في سبيلِ تحقيقِ غاياتٍ أقلّ ما يُقالُ فيها بأنَّها دنيئةٌ. حمانا الله من شُرُورِهم، وهدانا إلى التمييزِ بين الصّالحِ والطالِحِ من كلِّ الأمورِ.
[1] نشر هذا المقال في جريدة الرسالة – كندا العدد 428 تاريخ 20/12/2018.